هل ستحدث السعودية اختراقا في جدار الأزمة السورية الصلد؟
محمد عيسى
في أعقاب زلزال مدمر وقع قبل ثلاثة أسابيع، لم تشهد سوريا ومنطقة الشرق الأوسط مثيلاً له منذ قرون عدة، وفي ظل تنامي المخاوف من تجدده في كل لحظة، يعيش السوريون تحت وطأة كابوس نمط جديد من أنماط الموت، كابوس الموت تحت ركام بيوتهم التي شيّدها نموذج الفساد في استثمارات البناء ومقاولاته، والذي تورَّطت فيه الكثير من جهات الدولة والبلديات ونقابات المهندسين، في إتيانه على هذا الشكل، مخالفاً لشروط الأمان والسلامة، ولم يوفّر لقاطنيه غير شروط المقبرة الجماعية، ولأسر بكاملها، وليشكل ذلك حملاً إضافياً فوق أحمال السوريين اللذين باتوا منهكين من الجوع والفقر والتشرد، وأصبحوا ينأون عن حمل حتى ثيابهم في هذا المناخ الذي أوشك فيه المجتمع والدولة أن يصبحا مترنّحين.
وعلى ضوئه صار السوري يموت مرتين؛ وصار في موت دائم جرّاء خوفه من الموت. ومع كل صباح يَهيمُ على وجهه خوفاً من مجهول قادم، أو راكضاً نحو أقرب حديقة أو ساحة ليقضي بها ليلته. ولأنه جائع بالمطلق ويعاني من كل مصائب الدنيا؛ صار يردّد جملة واحدة “لقد سرقوا المعونات التي تدفقت من المجتمع الدولي ليبيعوها بالسوق السوداء”، كما صارت الغالبية شغوفة بعلوم الجيولوجيا والبراكين أو خبير زلازل.
ولأن الزلزال السياسي الذي قلب حياة السوريين رأساً على عقب مازال مستمراً منذ أكثر من عقد من الزمن، وحالة الإحباط واليأس هي المسيطرة على المزاج السوري العام، بعد فشل جميع المبادرات والمحاولات الدولية والعربية في إيجاد مخرج من الوضع المتدهور، والذي أصبح يتدهور بشكل يومي، ونظراً لأن المسألة السورية قد صارت نقطة تشابك دولي، وغدت الساحة السورية امتداداً لصراع الدول الكبرى؛ فقد أصبحت في جزء كبير منها مستنقعاً للقوى المتدخلة فيها، وميداناً او مَكسَرَ عصا للمتخاصمين حول مصيرها.
إلى ذلك تتسارع مبادرات الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالأزمة، وتتنافس على توظيفها لخدمة مصالحها ولتخفيف ارتداداتها المحتملة على مشاريعها وحروبها المندلعة في غير مكان من هذا العالم، أو التي يمكن أن تندلع بأية لحظة.
ولأن كانت مسألة إعادة إنتاج النظام في دمشق من عدمه هي العلامة الفارقة على الدوام وعنصر الاختلاف الرئيسي بين تلك المبادرات؛ فإن المبادرة السعودية التي أطلقها وزير خارجية المملكة “فيصل بن فرحان” في مؤتمره الصحفي مع الصحافة السعودية ببنودها العشر، تحاول أن تجسر الهُوَّة الشكلية بين المقاربتين، لتصل إلى الجديد والأهم في حل المعضلة السورية.
ويجب ألا يغيب عن البال أن هذه المبادرة قد جاءت اليوم على خلفية تطورات عديدة في الحراك السياسي حول سوريا، يمكن التماسه عبر مَجرَيَيْن، الأول المبادرة الروسية الإيرانية الساعية لإجراء تطبيع قسري للعلاقات بين الدولة السورية ونظام أردوغان، والذي هو أقرب إلى أن يكون طبخة سياسية يسعى الروس من خلالها إلى تحسين فرص أردوغان في الانتخابات القادمة على حساب المصالح الوطنية السورية. هذه الطبخة التي قد تكون بَعُدَت فرصها بالنجاح بعد الزلزال الأخير، والذي غيّر في ترتيب الأولويات، أو على الأقل أضعف النار تحتها.
والثاني، حديث الرئيس الأسد في كلمته المتلفزة الأخيرة، والذي عكس فيه تطوراً في غاية الأهمية، حين قال بأن “الوضع السوري بات من ضروراته تحقيق توافق وطني، ويجب التوصل إليه عبر حوار وطني شامل”، والذي بدوره لم يكن ليبديَ حماساً زائداً أو سرعة كافية للسير في ركاب المجرى الأول.
وبالعودة إلى مضامين المبادرة السعودية، والتي ستتضمن في ترجمتها الأولية على الأرض زيارة مرتقبة قد أُعلن عنها لوزير الخارجية السعودي إلى دمشق. ومما قد يكون له صلة بموضوع الزيارة والمبادرة، هو أن التوقيت الذي جاءت فيه بعيد زيارة الرئيس الأسد لسلطنة عمان، يشير إلى تلازم بين الخطوتين، ويعطي الخطوة السعودية الأهمية التي تستحقها. وإذا أضفنا إلى عناصر اللوحة زيارة وزير خارجية الإمارات إلى دمشق مؤخّراً، وزيارة الأسد المرتقبة إلى دولة الإمارات، ثم زيارة وزير الخارجية المصري إلى سوريا ولقائه بالرئيس الأسد، كل ذلك لا يمكن فهمه إلا في إطار إنضاج صيغة لحل محتمل في الأزمة السورية يجري إعداده، بالتشاور مع الدول العربية صاحبة الدور المهم في السياسة الإقليمية، والتي تتمتع بحظوة أيضاً لدى الدول الغربية، أو صاحبة كلمة يمكن تكون مسموعة في دوائر صنع القرار الأمريكيّ، وكذلك بعلاقات ودية مع إسرائيل.
وبالاستناد إلى الوقائع الآنفة الذكر يمكن الجزم بأن المبادرة السعودية تخرج إلى النور كولادة طبيعية وسلسة، وفي مناخ الوضع الإنساني الذي نشأ بفعل الزلزال، وكتتويج لما سبق الحديث عنه تحت اسم المبادرة العربية والتي لكل من مصر والأردن دور أساسي فيها.
وفي شأن متصل؛ فإن المبادرة في بنودها العشرة لا تخرج في جوهرها عن كونها تدابير تدور حول ترتيبات واقعية وضمانات جدية لتنفيذ القرار الدولي 2254، على أن يشرع رأس النظام نفسه بوضعها موضع التنفيذ. واللافت فيها نقطتين؛ الطلب بوضع حد للاستفزاز الإيراني في مناطق الجنوب السوري، عبر منع انتشاره في هذه المناطق، وبالتالي طمأنة الأردن، ثم القبول بانتشار قوات عربية على الأراضي السورية وعلى النقاط الحدودية منها، فيما يمكن أن يُفهم منه قطع الطريق على تدفق التهديدات للأراضي السورية من قبل الأتراك والإيرانيين.
وبالمجمل يمكن القول إن المبادرة السعودية تحمل جملة من العناصر الجديدة، ما يجعلها أوفر حظاً في تحقيق الاختراق المطلوب وتكسب مسألة الحل ديناميكية خاصة، يمكن إجمالها في الملاحظات التالية:
أولاً – تتميز المبادرة بمرونة خاصة وتركز على الهدف، وهو حصول التغيير، باعتباره حاجة ملحة للشعب السوري، بصرف النظر عن الطريق الذي يجب اتباعه لبلوغ ذلك التغيير.
ثانياً – توفير بيئة واقعية ومقنعة لوقف الاستفراد الإيراني والروسي، ثم مواجهة التهديد التركي. هذا الاستفراد الذي يبرر نفسه بأنه حضور شرعي جاء بناء على دعوة رسمية من حكومة معترَف بها دولياً وذات تمثيل في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وذلك عبر القبول بدعوة قوات عربية للانتشار على الأراضي والحدود الدولية السورية، هذه القوات التي سيكون وجودها شرعياً أيضاً، وسيتمتع وجودها بشرعية شعبية إضافية، إذا أخذنا بعين الاعتبار تزايد النفور الشعبي من التواجد الإيراني والروسي، وفشل هذا التواجد في ملاقاة أي من مطالب الشعب واهتماماته.
ثالثاً – تجاوز الإشكالية القائمة حول ثنائية “التغيير” أو “إعادة تعويم النظام”، والتي جعلت قضية الحل تستلزم جراحة قاسية لم يبدِ الشعب السوري استعداداً كافياً لتحمل تبعاتها، ليصبح الحل وفق المبادرة بمثابة استحقاق تاريخي ووطني شامل يمكن لجميع مكونات الشعب السوري أن تلعب دوراً في إنجازه، وبذلك توفر المبادرة فرصة لشرائح واسعة ضمن تركيبة النظام في المساهمة في عملية التغيير المنشود، أي أن يتحقق بالنتيجة انتصار الوطن، وبالتالي انتصار الجميع.
رابعاً – الحل وفق ما توحي به المبادرة، والتي تنطلق في جانبها المركزي على تطبيق القرار الأممي 2254، لا يعني بأي حال من الأحوال إعادة إنتاج النظام، وثمة مسافة كبيرة بين أن يكون لرأس النظام دور فاعل في تغيير النظام، وبين فكرة إعادة إنتاج النظام الاستبدادي والشمولي المترنح بالمعنى السياسي والأخلاقي، إذ لا يوجد في البلاد، بما فيهم الرئيس الأسد، نفسه يقبل أو يراهن على إعادة إنتاج النظام الذي فشل في تحقيق أي من المهام الوطنية التي تهم الشعب والوطن، وما كلام الرئيس عن الحاجة إلى تحقيق توافق وطني عبر حوار شامل؛ إلا تأكيد إلى أن المبادرة تقدّم طريقاً مستجداً للحلِّ ولا تعني التعويم، وحين تقول السيدة “إلهام أحمد” إن التعويم لن يؤدي إلى تحقيق حل سياسي للأزمة، فهي لا تقول إلا كلاماً بديهياً يتفق عليه كل عقلاء الشعب السوري؛ بمن فيهم الرئيس نفسه.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..