هل ستجمع كارثة الزلزال ما فرقته السياسة في سوريا؟
جميل رشيد
كشف الزلزال المُدمِّر الذي ضرب كلّاً من تركيّا وسوريّا عن هشاشة مؤسَّسات الدَّولتين في التصدّي للأزمات والكوارث الطبيعيّة والاجتماعيّة، على حَدٍّ سواء، وكذلك عن ضعف إمكاناتها في التعاطي مع الحالات الطارئة، فضلاً عن تأثير الفساد المستشري ضمن إداراتها في إنقاذ حياة مواطنيها بعد أن عصفت بهم أهوال الزلزال، ليعيش في العراء، وينتظر مصيراً مجهولاً.
آثار الزلزال التَّدميريّة على صعيد انهيار آلاف الأبنية وفقدان عشرات الآلاف لأرواحهم تحت الأنقاض، شَكَّلت كارثة ستلقى بتأثيراتها على مستقبل الأجيال القادمة، فيما تشرَّدَ ما سلم منه في البراري، بعد أن سيطرت عليهم حالة الخوف والهلع جرّاء الهزّات الارتداديّة التي لم تتوقَّف حتّى اللَّحظة.
رُبَّما يكون صحيحاً تسمية هذا بـ”زلزال القرن”، حيث تؤكِّدُ عدة مصادر بحثيّة جيولوجيّة أنَّ المنطقة لم تتعرَّض لهكذا نوع من الزلازل في شدَّتِها وطول مدَّتها منذ ما يقرب من تسعمئة عام، في حين يورد الباحث في تاريخ حلب “كامل الغزّي” أنَّ مدينة حلب تعرَّضت في عام 1822 لزلزال قويٍّ دمَّرَ قسماً كبيراً من المدينة، وتسبّب في موت نحو عشرين ألف إنسان، ويؤكِّدُ أنَّ الزلزال، أو الهزّات الارتداديّة، دامت ما يقرب من شهر ونصف، إلى أن سكنت الأرض.
علميّاً؛ وحسب خبراء الزلازل والجيولوجيا، لا أحد يمكنه التنبؤ بوقوع الزلزال، لكنَّهم من جانب آخر يوضّحون بأنَّ الزلازل عادة ما تأتي بشكل موجات تخامديّة، أي أنَّ الموجة الأولى تكون قويّة، وتتناقص شدَّتُها مع مرور الزَّمن إلى أن تصل إلى الحالة الستاتيكيّة أو السكونيّة، وهذا يبعث على الطمأنينة والسَّكينة في نفوس النّاس، بعد أن سادت بينهم حالة من الخوف بحدوث الزلزال في أي وقت كان.
لن ندخل في حيثيّات نظريّة المؤامرة التي طرحها البعض في اتّهام هذا الطرف أو ذاك حيال تسبّبه في إحداث الزلازل، ولن نسقط السِّياسة على الكارثة بشكل فجٍّ وسمج، مثلما فعل البعض، بل سنحاول إبداء مقاربة واقعيّة حيال تبعات الزلزال على المستوى السِّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، والتحوّلات المتوقَّع حدوثها إثر حالة التشرّد التي سادت المدن التي ضربها الزلزال، وكيف تحاول الأطراف السِّياسيّة الاستثمار في الكارثة.
بات ظاهراً للعيان أنَّ تركيّا ممثَّلة بحكومتها الحاليّة، لم تُعِرْ الجانب الإنسانيّ للكارثة أيَّ اهتمام، بل جَيَّرَت كُلَّ المساعدات التي تلقَّتها من المجتمع الدّوليّ في سبيل الاستفادة منها لاحقاً أمام صناديق الاقتراع في الانتخابات المزمع إجراءها في منتصف مايو/ أيّار المقبل، وتعاملت بشكل أكثر قبحاً مع الحالات الإنسانيّة التي سادت بعد وقوع الزلزال، خاصَّةً في المناطق التي تَحتلُّها في سوريّا، حيث منعت في الأيّام الأولى لوقوع الزلزال وصول المُنظَّمات والهيئات الدّوليّة إلى المناطق المنكوبة في سوريّا وروج آفا، خاصَّةً بلدة جنديرس التي دَمَّرَ الزلزال أكثر من 85% منها.
أغلقت تركيّا مَعبَرَيْ “باب الهوى وحمّام” أمام قوافل المساعدات ومُنظَّمات الإغاثة، حيث أنَّها افتتحت معبر “حمّام” بعد احتلالها لمنطقة عفرين عام 2018، وتذرَّعت بأنَّ الطرق المؤدّية إلى جنديرس تصدَّعت جرّاء الزلزال. إلا أنَّه بعد أن مارست الأمم المتّحدة والدّول الغربيّة الضغوط عليها؛ اضطرَّت إلى فتح الطرق أمامها، للوصول إلى المناطق المنكوبة. غير أنَّ المشاهد التي نقلها الإعلام العالميّ، وكذلك تلك التي نُشِرَت على مواقع التَّواصل الاجتماعيّ؛ كشفت عن بشاعة وجه الاحتلال التُّركيّ ومرتزقته داخل عفرين المُحتلّة، وكيف أنَّه مارس عنصريّة مقيتة في التَّعامل مع ضحايا الزلزال، وخصوصاً الكُرد منهم. فميَّزت بين الكُرديّ والعربيّ، وسلَّمت زمام انتشال الضحايا من تحت الأنقاض والرُّكام إلى مرتزقتها، التي مارست أعتى أشكال الشّوفينيّة، حيث أكَّدَ شهود عيان أنَّ المرتزقة بادروا إلى انتشال الضحايا واستثنوا الكُردَ من العمليّة، ما أدّى إلى أن يقضي العشرات منهم تحت الرُّكام، رغم نداءات الاستغاثة التي أطلقها الضحايا، وكُلّ ذلك جرى على مسمع ومرأى قوّات الاحتلال التُّركيّ، التي رفضت تقديم أيَّ نوع من الدَّعم والمساندة للضحايا، واتّخذت موقف المتفرّج، رغم أنَّ أردوغان أعلن حالة الطوارئ في المناطق التي ضربها الزلزال، وفي جميع دول العالم التي تتعرَّض للكوارث الطبيعيّة؛ يتدخَّل الجيش والقوّات المُسلَّحة كجهة تساهم في إنقاذ الضحايا وإجلائهم.
كذلك تعرَّضت العديد من المساعدات التي وصلت إلى مناطق عفرين وجنديرس تحديداً إلى السَّرقة من قبل مرتزقتها، ولم تصل إلى المنكوبين والمتضرّرين إلى نسبة ضئيلة، كما اتّبعوا انتقائيّة خبيثة في توزيعها، حيث حرموا الكُردَ منها.
إلا أنَّ المسألة التي فضحت تركيّا ومرتزقتها أكثر؛ كانت عدم سماحها بدخول المساعدات التي قدَّمتها الإدارة الذّاتيّة، حيث ظلَّت قوافل المساعدات تنتظر إذن العبور، وبعد مرور عِدَّةِ أيّامٍ؛ اضطرَّت الإدارة الذّاتيّة إلى سحب قوافلها، رغم تدخُّل العديد من الجهات والشَّخصيات في الضغط على ما تُسمّى بـ”الحكومة المؤقَّتة” ولدى المدعو رئيسها “عبد الرَّحمن مصطفى” ورئيس الإئتلاف “سالم المسلط”، إلا أنَّها لم تجدِ نفعاً.
ظهر أنَّ قرار منع إدخال مساعدات الإدارة الذّاتيّة صدر من قبل الاستخبارات التُركيّة “الميت”، والتي بدورها أوعزت إلى بيدقها المدعو “عبد الرَّحمن مصطفى” ليُنفِّذَ الأوامر فقط، ولو دخلت تلك المساعدات، وخاصَّةً قافلة المحروقات والآليّات، لرُبَّما ساهمت في إنقاذ العديد من الأرواح التي زُهِقَت، والأخير وحكومته “العتيّة” والاحتلال التُّركيّ يتحمّلون كامل المسؤوليّة عنها.
لا شَكَّ أنَّ حكومة دمشق أيضاً أبدت مقاربة سلبيّة حيال المساعدات التي قدَّمتها الإدارة الذّاتيّة للوصول إلى المناطق المتضرّرة في حلب ومناطق الشَّهباء، وظلَّت قوافل المساعدات والمحروقات، إضافة إلى قافلة الهلال الأحمر الكُرديّ عالقة في معبر التايهة لعِدَّةِ أيّام، بسبب منع حواجز “الفرقة الرّابعة” من مرورها، واشترطت أن تحصل على 60% منها مقابل السَّماح بعبورها، ورغم ذلك لم تسمح بمرورها إلا بعد أن مارست روسيّا ضغوطاً عليها.
إنَّ محاولات حكومة العدالة والتنمية تحصيل نتائج لصالحها في الكارثة التي حَلَّت ببلادها وسوريّا، تمثَّلت من خلال استكمال مشروع التغيير الدّيمغرافيّ في عفرين، وتهجير ما تبقّى من الكُردِ منها، إن كان عبر التَّهديد والوعيد، أو الادّعاء بأنَّ منازلهم باتت غير قابلة للسَّكن، ليتسنّى لها اقتلاعهم من أراضيهم التي طالما عاشوا عليها منذ مئات السّنين. وقد انتبه الأهالي الكُرد إلى ألاعيب ومؤامرات الاحتلال التُّركيّ؛ فعمد معظمهم إلى البقاء في منازلهم، فيما نصب البعض منهم الخيم على الأنقاض ورُكام منازلهم، ورفضوا التوجّه إلى المُخيّمات المزمع أن يقيمها الاحتلال.
فيما أعلنت دويلة قطر، وبالتَّنسيق مع دولة الاحتلال التُّركيّ وتنظيم “الإخوان المسلمين” الإرهابيّ، عن مشروع إقامة مدينة جديدة باسم “الكرامة” على أنقاض بلدة جنديرس التّاريخيّة، بهدف مساعدة الاحتلال التُّركيّ والتَّنظيم الإرهابيّ تغيير هُويَّة عفرين الكُرديّة التّاريخيّة، حيث كانت نسبة الكُرد في عفرين تتجاوز الـ98%، حسب بعض المصادر.
لكن بمطلق الأحوال ما بعد الزلزال لن يكون كما قبله، على صعيد الاستقطابات الإقليميّة والدّوليّة، حيث بدأت تظهر تحالفات واصطفافات جديدة، رافضة لوجود الاحتلال التُّركيّ في الأراضي السُّورية، وهذا التوجُّه يُعزِّزه محاولات القوى الوطنيّة والدّيمقراطيّة السُّوريّة تناول الأزمة السُّورية من منظور الوحدة الوطنيّة لشعبها وجغرافيّتها، والذي بات مُسلَّمة غير قابلة للنِّقاش والمساومة عليها، فتحدّيات ما بعد وقوع الزلزال، والحالة الكارثيّة والمأساويّة التي يَمُرُّ بها الشَّعب السُّوريّ، يضع جميع القوى الديمقراطية أمام استحقاقات مُلِحّة؛ أهمُّها الدَّعوة إلى الجلوس حول طاولة حوار، معارضة وموالاة، وبالتّالي الإتيان إلى حَلٍّ ديمقراطيّ يُنقذُ الشَّعب السُّوري من محنته، ومن أولويّات هذا الحوار تحرير الأراضي المُحتلّة من قبل تركيّا، وأيضاً محاربة الإرهاب، ومن ثُمَّ وضع آليّات الوصول إلى حَلٍّ دائِمٍ وسياسيٍّ في سوريّا، فلعلَّ وعسى ما فرَّقته السِّياسة تجمعه كارثة الزلزال.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..