حالة الطوارئ .. بين الشرعية القانونية والضرورة
جميل رشيد
بات من البديهيّة القانونيّة والشَّرعيّة في معظم دول العالم، أن تعلن دولةٌ ما حالة الطوارئ عندها تعرُّضِها لأزمات وكوارث مثل الحروب والزلازل والفيضانات والأوبئة وما إلى ذلك من المسائل التي تمسُّ بشكل مباشر حياة وأمن واستقرار سُكّانها، درءاً لمزيد من التدهور، أو حصول حالة من الانفلات والهزّات المجتمعيّة والفوضى، لما لتلك الأزمات من انعكاس مباشر على حياة وعمل واستقرار مواطني تلك الدَّولة.
تَستَمِدُّ حالة الطوارئ مشروعيَّتها من الدَّستور، ويكاد لا يخلو دستور أيّ دولة في العالم من تخويلِ وتفويضِ سُلُطاتها في إعلان حالة الطوارئ حينما تَمُرُّ بالكوارث والنَّكبات، حيث ينزح المواطنون عن أماكن استقرارهم. وبموجب التَّفويض الدُّستوريّ؛ السُّلطات ملزمة بتقديم كافَّة أنواع الرِّعاية والحماية لمواطنيها، مع تأمين حياتهم ضُدَّ التَّهديدات التي قد تطالهم.
جاء إعلان الإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا عن حالة الطوارئ، كضرورة لا بُدَّ منها، في ظلِّ التَّهديدات التي تطلقها دولة الاحتلال التُّركيّ بشَنِّ عدوانٍ جديدٍ على مناطقها، وهو إعلان يكتسب أهميّته الحيويّة، كون العدوان له تداعيات كارثيّة على حياة المواطنين، كما شاهدنا في العدوان على عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، حيث نزح أهالي تلك المناطق تحت قصف طيران ودبّابات ومدافع الاحتلال التُّركيّ، وألحق العدوان دماراً هائلاً بممتلكاتهم ودورهم السَّكنيّة، فيما عمد مرتزقته على سَرِقَةِ ما تبقّى منها، ما اضطرَّ الأهالي النّزوح إلى المناطق الأكثر أمناً، لتستقرَّ بمعظمهم الحال للعيش تحت الخيم ضمن المُخيَّمات التي أنشأتها الإدارة الذّاتيّة في مناطق مختلفة من شمال وشرق سوريّا.
فحالة الطوارئ تستدعي استنفاراً في مؤسَّسات الإدارة الذّاتيّة وكافَّة اللّجان التّابعة لها، لتلبّي متطلَّبات المرحلة الاستثنائيّة التي تَمُرُّ بها مناطق شمال وشرق سوريّا، لجهة تكثيف جهودها وتقديم خدمات متواصلة وسريعة للمواطنين، وتأمين مناطق إيواء ممَّن تقطَّعت بهم السُبُل ونزحوا عن ديارهم، عبر سلسلة إجراءات من العمل الميدانيّ، وإنشاء شبكات تواصل مباشرة مع المواطنين، وتخصيص ميزانيّة خاصَّة لها، يمكن تسميتها بـ”ميزانيّة الطوارئ”.
دون شكٍّ الأمر يتطلّب خبرات للتَّعامل مع الحالات الطارئة التي ستواجه الإدارة والعاملين في مؤسَّساتها، إنْ كان على الصعيد الخدميّ أو الطُبّيّ الإسعافيّ، مع إيلاء الأهميّة لكِبار السِنِّ والأطفال وتأمين ملاذات آمنة لهم، بما يبعدهم عن أهوال الحرب وأصوات المدافع والدبّابات وقصف الطيران، ورُبَّما هذه مهمَّة صعبة وتتطلَّب مزيداً من الجهود والدِقَّة والعناية والخبرة الميدانيّة.
يُوجِّهُ البعض انتقادات إلى الإدارة الذّاتيّة بإعلانها “حالة الطوارئ”، لجهة أنَّ الأوضاع المعيشيّة والأمنيّة في مناطق شمال وشرق سوريّا، تَشهدُ حالة طوارئ دون الإعلان عنها، حيث القصف المستمرّ لقوّات الاحتلال التُّركيّ ومرتزقته على مختلف المناطق، واستهداف طيرانه المُسيَّر للمدنيّين، وأنَّه لا ينقصها إعلان حالة طوارئ إضافيّة، لجهة الانتشار الأمنيّ المكثَّف وتقييد الحركة ضمن المدن لأوقات محدودة، وما إلى ذلك من الإجراءات التي ستتَّخذها مؤسَّسات الإدارة.
رُبَّما هذا التَّوصيف يكون صحيحاً إلى حَدٍّ ما، على اعتبار أنَّ مناطق شمال وشرق سوريّا هي جزء من سوريّا، التي لم تشهد استقراراً كاملاً، وبالتّالي لا يمكن استثناءها من سوريّا.
إلا أنَّ ما هو صحيح أيضاً، أنَّ ما رافق العدوان على عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، وحالة الفلتان التي شهدتها تلك المناطق وتقطُّع السُبُل بأهاليها، حيث بات معظمهم في العراء في أيّام الشتاء القاسية، إنَّما يفرض على الإدارة اتِّخاذ إجراءات استباقيّة تخفِّف عبء النّزوح عن الأهالي. ففي هذه الحالة تكون حالة الطوارئ ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، ما يفرض على جميع المواطنين قبولها والتَّعامل معها على أساس درء المخاطر ومنع التدهور والانهيار في الأوضاع الأمنيّة والاقتصاديّة وحدوث فلتان أمنيّ وفوضى وغياب الضوابط القانونيّة.
يستلزم في هذه الحالة، أن تضعَ الإدارة الذّاتيّة خُطَّة طوارئ متكاملة، على الصعيد الأمنيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والطبّيّ، عبر توزيع لجانها وعناصرها في المدن والأرياف، لتدارك حدوث أيِّ غيابٍ لدورها كسلطة مسؤولة أمام مواطنيها، والتَّعامل بروح المسؤوليّة مع جميع الحالات التي قد تنشأ خلال العدوان، والاستفادة من التَّجارب السّابقة، وعدم النَّظر إلى المسألة بعين اللا مبالاة؛ بل إبداء الحرص اللازم تجاه كُلّ حالة إنسانيّة.
حالة الطوارئ المعلنة من قبل الإدارة الذّاتيّة، تبقى في إطار ما ستؤول إليه الأوضاع في مناطق شمال وشرق سوريّا، أي أنَّ تفعيلها على الأرض بشكل فعليّ، مرتبط بتنفيذ دولة الاحتلال التُّركيّ تهديداتها في شَنِّ العدوان، أي أنَّها تبقى حالة “افتراضيّة” لا تدخُلُ حَيّزَ التَّنفيذ ما لم يقع العدوان، ولهذا لا يستوجب على المواطنين إبداء أيِّ نوع من الخوف حيالها؛ بل هي بالنِّهاية لسلامتهم وحفظ أمنهم واستقرارهم. رُبَّما هي حالة جديدة؛ إلا أنَّه يجب التَّعامل معها بكُلّ أريحيّةٍ.
إنَّ تخصيص الموارد الماليّة الكافية لـ”حالة الطوارئ”، تُعَدُّ من الأولويّات، لجهة توقّف معظم القطّاعات الإنتاجيّة في مناطق شمال وشرق سوريّا، واعتماد معظم سُكّانها على ما تُقدِّمُه لهم الإدارة من خدمات متنوِّعة.
كما يتوجَّب على الإدارة تحديد زمن انتهاء العمل بـ”حالة الطوارئ” أو “قانون الطوارئ”، بعد انتهاء مفاعيل العدوان – هذا إن وقع – وهو إجراءٌ يفترض أن تتداركه الإدارة، كيلا يصبح مثل حالات وقوانين الطوارئ التي فرضتها أنظمة شرق أوسطيّة منذ اعتلائها على السُّلطة إلى يومنا هذا. فالدُّول والإدارات الدّيمقراطيّة، تلغي العمل بـ”قوانين الطوارئ” حالما تنتهي الحالة التي استوجبت فرضها، مثل الكوارث الطبيعيّة “الزَّلازل، البراكين، العواصف، الحروب، …إلخ”.
ويُجيزُ القانون الدّوليّ تعليق الحقوق والحُرّيّات أثناء حالة الطوارئ، كما تستطيع الحكومات تقييد الأشخاص واحتجازهم دون محاكمة، دون التعرّض للحقوق المدنيّة والسِّياسيّة، والحفاظ على الحَقِّ في الحياة، كما يمنع التَّعذيب وسوء المعاملة.
إلا أنَّ الدول الدّيكتاتوريّة استغلّت تفويضها القانونيّ والدّستوريّ بإعلان حالة الطوارئ وحتّى الأحكام العُرفيّة، لتفرض سياسةَ كَمِّ الأفواه وتقييد الحُرّيّات المدنيّة، ومنع أيِّ نشاطٍ سياسيٍّ أو مدنيٍّ خارج الأُطُر التي تُحدِّدُها هي، وألغت كُلَّ ممارسةٍ للحقوق التي منحها الدّستور للمواطنين والأفراد، فتحوَّلت مع مرور الزَّمن إلى سُلطة قمعيّة تمارس دورها بالقوّة، وبشكل تَعسُّفيٍّ.
ما يجب أن تتداركه الإدارة الذّاتيّة، هو ألا تتحوَّل إلى ذاك النَّموذج من السُّلطات التي درجت واعتادت عليها شعوب المنطقة، كُلُّ المؤشِّرات تُفيد بأنَّ لا مجال أمام الإدارة لتمارس صلاحياتها وإجراءاتها بالأسلوب السُّلطويّ. فرغم التَّفويض الشَّرعيّ الممنوحِ لها من “المجلس العام”، الذي هو بمثابة البرلمان، كأعلى سلطة تشريعيّة في مناطق شمال وشرق سوريّا، إلا أنَّها في ذات الوقت – أي الإدارة الذّاتيّة – مسؤولة أمام المجلس العام، وأيُّ خروج عن الصلاحيّات الممنوحة لها، يضعها في موضع المُحاسبة والتَّساؤل أمام المجلس، وبالتّالي حُرّيّة العمل بحالة الطوارئ مؤطَّرة ومنوطة بمدى المراقبة والمتابعة من قبل “المجلس العام”، وهو ما يجعل من الإدارة تُضبط إيقاع عملها وفق السُّلطات والتّشريعات المنبثقة عن “المجلس العام”.
الآراء المنشورة في المنصة تعبّر عن وجهة نظر كتّابها