عندما يمد لافروف طوق النجاة لأردوغان
محمد عيسى
في وقت تتصاعد فيه نقمة السوريين ضد الموالاة والمعارضة، على حد سواء، وعلى الأطراف الإقليمية والدولية صاحبة الدور والنفوذ الأكثر حسماً في الأزمة السورية، وفي الوقت الذي تجمع فيه شعوب المنطقة ونخبها الواعية على تحميل مثلث أستانا المسؤولية استمرار معاناتهم، وفي تعطيل أو تأخير عملية الحل الوطني الديمقراطي في الأزمة السورية وباقي أزمات المنطقة، وذلك من خلال ربطها حيناً بمصالحها وأزماتها ومستلزمات حروبها مع العالم، أو المساومة عليها، حيناً آخر، والتي شعوبها نفسها باتت تضيق ذرعاً بهم، وتتقيّأهم وتتقيأ منطقهم وأحلامهم المريضة. في هذا الوقت بالذات ينبري رئيس الدبلوماسية الروسية “سيرغي لافروف” إلى إطلاق اتهام غريب ومستهجن ولا يليق بالدبلوماسية الروسية الخروج بمثله، مفاده أن “هدفاً انفصالياً عن الدولة السورية ستعنى بتحقيقه أو تعمل من أجله قوات سوريا الديمقراطية”.
ولا ندري من أين استمد الوزير “لافروف” عناصر نبوءته، وهو الذي يُفترض فيه أن يكون أكثر العارفين بأن إطلاق الأحكام على توجّهات أي حزب أو حركة ينطلق بالدرجة الأولى من البرامج والشعارات التي ترفعها أو تتبناها هذه الحركة أو الحزب. وعلى ضوء حقيقة أن (مسد) لا ينفك عن شعاره الوحيد ورمز نضاله الأول؛ خريطة سوريا واحدة، بما فيها الجولان ولواء إسكندرون، وهو شعاره الذي يردده جهاراً نهاراً “سوريا نريدها جمهورية ديمقراطية لامركزية في سياق دولة مدنية عصرية واحدة لجميع مكوناتها، تتبوّأ فيها المرأة دوراً رياديا وغير مسبوق”.
في ضوء ذلك وبعد الدعوات والبيانات المتكررة والمؤتمرات التي شهدها الداخل السوري والخارج، والتي انصبَّ اهتمامها على دعوة السوريين بجميع قواهم وفعالياتهم المؤثرة، إلى الحوار والتفاهم على هذه المنطلقات والثوابت، يصبح الاستغراب وعوامل الدهشة هو سيد الموقف من المواقف الروسية، ويضعها، وضمن الظروف الراهنة، في خانة من يبرّر أو يسوّق للعدوان التركي الأردوغاني المحتمل على الأراضي السورية، ويضع سياسة الحكومة الروسية في موقع من يقود حملة أردوغان الانتخابية.
أما لماذا سيكون من حق المتتبع لتطورات المواقف الروسية في المسألة السورية أن يخرج بكل هذا الانطباع الذي يثبت الانحياز الكامل إلى صف المصالح التركية الأردوغانية، على حساب مصالح الشعب السوري والدولة السورية؟ فلأنها مواقف صار من المسلّم بها أنها تنبع من الهوس الروسي بفكرة إخراج تركيا الأردوغانية من الحضن الأطلسي والغربي الأمريكي عموماً، مع ما تمليه أو تُلحُّ عليه تطورات الحرب الروسية في أوكرانيا، هذا أولاً. ولأنها افتراءات مجانية للواقع وتجري بالتضاد منه، ثانياً. وحيث أن في سلوك (مسد) مِنَ الوقائع والدلائل ما يشير إلى أنها هي الأخرى تعاني من هَوَسٍ من نوع آخر، هَوَسُ الحوار بين الأطراف السورية، بعيداً عن أي تدخل، وبعيداً عن أجندات أي قوة أو دولة في العالم.
ولا يمكن النظر إلى مبادرات التفاوض مع سلطات دمشق، والتي كان في آخرها زيارة العاصمة السورية دمشق من قبل وفد الإدارة الذاتية ممثّلاً برئيس دائرة العلاقات الخارجية وبعض أعضائه، إلا كخطوة في هذا الاتجاه، وبما يخالف الرؤية الروسية.
في تقييم (مسد)، ومما يجدر ذكره، أنه في أعقاب الزيارة، وتعليقاً على التصريحات الروسية، ذهب الرئيس المشترك لدائرة العلاقات الخارجية “بدران جيا كرد” إلى تبني بيان رفضٍ واستنكار للدور الروسي المغالط للحقائق على الأرض، وذلك في إصدار نشر على موقع دائرة العلاقات.
وقد سلط الضوء فيه على مكامن اللُّبس والازدواجية في الدور الروسي، الذي يقر أو يتفهم المخاوف التركية المزعومة التي تحدثها الإدارة الذاتية و(مسد)، وفق الرؤية الروسية، وبالتالي يشرعن العدوان التركي المحتمل عليها وعلى الدولة السورية من جهة، ويرعى جهود الوساطة بين (مسد) والسلطات في دمشق، من جهة أخرى، وبذلك يقدّم فضحاً لانحدار مستوى المصداقية وغياب الانسجام ما بين الأقوال والأفعال في السياسة الروسية. ويتابع “جيا كرد” في بيانه الإعلامي التأكيد على ثبات موقف الإدارة الذاتية و(مسد) الداعم لمبدأ الحوار بين الأطراف السورية، والبعيد عن أية محاور أو توجهات لهذه الدولة أو تلك.
وحول هذه النقطة، وفيما يتصل بتغليب الروس لمصالحهم القومية على حساب الشعب السوري، وبالتضاد مع أولويات خروجه من أزمته والحفاظ على وحدة أراضيه، لم يكن “بدران جيا كرد” وحده من يشكك بنزاهة السياسة الروسية وسياسة شركائهم في حلقة أستانا، بل تتجذر مواقف قلق مستجدة كل يوم لدى السوريين، وفي جميع المواقع، جراء النهج الروسي المفرط بالمصالح الوطنية السورية والداعم لبقاء أردوغان في حكم تركيا لولاية جديدة، وخاصة بعد الحملة المتسارعة للدفع بجهود المصالحة القسرية بينه وما بين السلطات السورية.
أما أن يدفع الروس باتجاه انجاز هكذا مصالحة بعد كل هذا التاريخ من العدوان والتآمر على الشعب السوري وعلى وحدته، وبعد كل محطات التطييف والتخريب والعبث بنسيجه؛ فلا بد أنها نشاطات تأتي لتقطع الطريق أو تعرقل جهود المصالحة والتفاهم بين أطراف العملية الوطنية السورية، هذه الجهود التي لا ترشح الحياة خياراً غيرها، وليس في تاريخ الصراعات والحروب الأهلية في النهاية من مخارج غيرها.
وعلى قاعدة “أفهم مرضك، أو اعرف عدوَّك”، وفي جو الحديث المستعر حول التقارب بين دمشق وأنقرة؛ فإن ما يجدر ذكره أن الخلاف السوري التركي، وخاصة بقيادة حزب العدالة والتنمية، ليس خلافاً على الحدود فقط، وليس خلافا عابراً يمكن القفز من فوقه أو تسويته بوساطة دولة ثالثة كما يحصل في حل الخلافات بين الدول، بل هو خلاف يرقى إلى مستوى العدوان وتحدي الوجود، وهو لم يحظَ حتى الآن بالاهتمام الذي يستحقه ولم يرقَ في برامج القوى السياسية إلى موقع التهديد الذي يتفق مع خطورته. فالدولة السورية بكليتها لا وجود لها في بنية المشروع الأممي الإسلاموي العثماني، والذي يشتغل أردوغان وحزبه على إحيائه، وكما هي النظرة إلى العراق وليبيا والصومال. وقد يكون من الحكمة النظر إلى السياسة التركية الحديثة من منظورين؛ الأول، المرحلة الأتاتوركية، والتي امتدت بعد الحرب العالمية الاولى وحتى انقضاء القرن الماضي، وفيه أيضاً لعبت السياسة التركية دور عامل التهديد المباشر لجيرانها، وقد تكون نشأت خلالها حروب واعتداءات على دول الجوار، ومنها سوريا وقبرص وغيرها، لكنها من نوع الخلافات التي تحصل بين الدول ويمكن تسويتها عندما تتوفر الشروط التاريخية المناسبة، ولم ترق إلى مستوى التهديد لوجود الدولة السورية.
والمنظور الثاني، وهو مخاطر السياسة التركية بعد صعود تحالف أردوغان الإسلامي – القومي التركي إلى سدة الحكم منذ بداية القرن الحالي وحتى الآن. وفي ظل هذه المرحلة؛ تبلور المشروع العثماني الجديد العابر للدول، ومنها وفي أولها سوريا، والمسألة نفسها كانت قد حصلت في وضع العراق مع إيران إبان الثورة الإسلامية الإيرانية.
نخلص إلى حقيقة لا يمكن تجاوزها في المعادلة التركية مع سوريا والمنطقة، هي أن أي عمل أو تفاهم تقدم عليه أية قوة أو حركة سياسية، من شأنه أن يحسن فرص تحالف أردوغان للفوز في الانتخابات القادمة، ويُعَدُّ خطأ تاريخياً لا يمكن تلافي نتائجه. وهو الأمر الذي يجب أخذه بالحسبان في هذه اللحظة. وبما أن قضايا الشعوب واحدة وهمومها واحدة؛ فان الذي يتوجب اتباعه هو مد اليد إلى مشاريع المعارضة التركية ومؤازرتها لقطع الطريق على تحالف الخطر والعدوان الأردوغاني.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..