هل سيشهد الصراع في سوريا تحولا بعد تقارب دمشق مع أنقرة؟
محمد عيسى
رقصٌ تركيٌّ أردوغانيٌّ جديدٌ حول المشهد السوري، لا يصدم المعارضة السورية فقط؛ بل يكاد لشدة نشوذه يباغت الجميع ويخدش الذوق والحياء. وعلى هَدْيِ مقولة “إن لا مواقف دائمة في السياسة”؛ بات يخالف كل قواعد علم السياسة، لسرعة انتقاله والتواء مسار حركة السياسات لديه، وهو الذي زعم في بداية مشواره في السياسة قبل عقدين من الزمن؛ بأنه صاحب مشروع نهضوي إسلاموي يقوم على وهم من مبادئ الإسلام السياسي، وإذ وصل به الأمر إلى الطلاق مع ألف باء المبادئ.
وانتقل مناخ الدهشة إلى الجولاني نفسه، الذي بدوره هو الآخر لم يستطع أن يستوعب أو يهضم معدَّل التذبذب الحاصل في المواقف التركية الأخيرة، التذبذب والتبدّل الذي أصبح نهجاً انتهازياً متجذّراً لم تبدأ قصته في تعاطي أردوغان مع الموضوع السوري؛ بل بدأ في تعاطيه مع رفاقه المقرّبين في حزب العدالة والتنمية، “أحمد داود أوغلو” و”علي بابا جان”، وغيرهم ممن لم يتقبلوا تناقض نهجه.
والتردد في المواقف والتخلي عن الوعود، ليس طقساً من طقوس السياسة الداخلية الأردوغانية فحسب؛ بل صار سمة السياسة التركية العامة. وبالاحتكام إلى الذاكرة؛ لا يجب أن يفوتنا تنصُّله، في ولاية حزبه السابقة، من وعوده بحل القضية الكردية ومسائل الأقليات التي ينضح بها الواقع التركي، والتي تجاوب في سياقها حزب العمال الكردستاني، وتبنّى وقفاً شاملاً لعملياته العسكرية، إفساحاً في المجال لخلق مناخٍ مواتٍ في الوصول إلى حلول للقضية.
وعلى نفس المنوال؛ كان التخبُّط والتقلّب هو عنوان السياسة الإقليمية لأنقرة في المسالة المصرية، والتي شهدت محاولات مستميتة للتقرُّب من حكومة “السيسي”، على خلفية الصراع الناشئ عن مساندة حكم “مرسي” الإخواني. والشيء نفسه مع السعودية، بعد قضية مقتل الصحفي السعودي “جمال الخاشقجي”. ودائماً وفي كل المواقف والمعطيات؛ لا يسع المراقب إلا أن يَخلُصَ إلى حقيقة لا جدال فيها؛ هو أن أردوغان قد دخل في تاريخ السياسة التركية والدولية كبطل غير مسبوق، في امتهان سياسة الكذب والرياء والانتهازية.
ولن يكون بعد ذلك من الحكمة تجاهل الأخلاقية الأردوغانية عند التعليق على خطوات التقارب التركية – السورية الأخيرة، كما لا يمكن استبعاد احتمالات النكوص عنها عندما تنتفي أو تتغير الظروف التي خلقت الحاجة للقيام بها. وعليه لا بُدَّ من الإشارة إلى يقظة الحكومة السورية حول هذه النقطة، وأن الموقف الرسمي السوري لم يكن ليبديَ حماساً زائداً للتفاعل معها، لولا تراكم الضغوط الروسية واستعجالها في تسليف أردوغان أثماناً لأدواره المستحقّة والمحتملة في الحرب الروسية مع أوكرانيا. كما لا بُدَّ من التأكيد على ملاحظة جِدّ هامة؛ هو أن هذا التقارب وإن كان يجري على نار ساخنة وترافقه جهود إعلامية وسياسية مكثفة، وأن أطرافاً إقليمية وعربية قد تتقاطع مؤقتاً مصالحها مع تمريره لإحداث تقارب بين الجانبين، على أمل بأن يشكل ذلك بوابة لإخراج إيران من المعادلة السورية أو تقليص نفوذها فيها، حيث تندرج زيارة وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد إلى دمشق ضمن تطوراتها، لكن من السابق لأوانه القول إن هذه الخطوة قد كتب لها النجاح، وأن صعوبات جمَّة مازالت تفصلها عن أن تصبح سياسة رسمية معتمدة عند القيادة السورية.
لكن وبمعزل عن فرص نجاح أو فشل خطوة التقارب هذه؛ فيجب أن يكون واضحاً أنه ثمة مآزق وحاجات ملحة في الوضع التركي دفعت أردوغان للبحث عن مخارج لها. فالوضع الاقتصادي وحالة الركود السائدة ومعدلات التضخم وانخفاض قيمة الليرة وتراجع سعر صرفها في السنوات الاخيرة إلى خُمس ما كانت عليه بالنسبة للدولار الأمريكي، قد خلق قناعة لدى المواطن التركي بأن هذا كله ناتج عن تورّط السياسات التركية في أزمات المنطقة، وبخاصة الأزمة السورية، وما ترتب عنها من مشاكل اللاجئين، والمنافسة على فرص العمل، وخلق أعباء عديدة على الاقتصاد، وعلى حساب الناخب التركي في احتسابات الانتخابات القادمة، الأمر الذي صار يعني أن معافاة الاقتصاد واسترضاء الناخبين يمر عبر خطة لحلّ مسألة اللاجئين، والتي طريقها الممكن والوحيد هو تسوية بالتفاهم مع الحكومة السورية. وبالإضافة إلى ورقة اللاجئين؛ ثمة أيضاً ورقة مواجهة ما يزعم أنه تهديد حزب (ب. ك. ك) للأمن القومي التركي، وإلصاقه تلك التهمة بـ(قوات سوريا الديمقراطية) أيضاً، وقد درج على الاستثمار في تلك الورقة خلال حملاته الانتخابية السابقة.
لكن يبقى الشيء المهم في هذه المسألة هو انعكاسها على المعارضة السورية بشكل عام، والدور الذي ستلعبه في تشكيل التوازنات والمعادلات السورية الجديدة، والذي يتطلب قبل الغوص فيه التوقف عند محطة هامة جداً في فهم المعادلة التي ستنشأ ومدى التأثير فيها، إنها المحطة المتعلقة بواقع وموقف قوات سوريا الديمقراطية ومجلسها السياسي (مسد)، والتي أدلت بموقف صارخ وواضح ومندّد بأهداف ما رأته خطوات تتعارض مع مصلحة السوريين. وبالمقابل مَدَّ (مسد) في بيانه اليد إلى السوريين بجميع مكوناتهم وأحزابهم الوطنية للتعاون والعمل في إطار برنامج وطني عام، يضمن وحدة البلاد ويحافظ على سلامة الشعب، ضمن صيغة الدولة الواحدة الديمقراطية واللامركزية.
أما عن كيف سيؤثر كل ذلك على مصير المعارضة السورية؛ فإن ما أجمعت عليه أغلب الصحف والتعليقات وكتاب الرأي في الصحافة المحلية والعالمية، وما أكدته التجارب السابقة، ووفق مُسلَّمة أن صفقة التفاهم المطروحة سيكون مكافِئُها الموضوعي أثماناً متبادلة، وأن الثمن الذي يستعد الطرف التركي لدفعه، وقد شرع بتنفيذه ضمن مرحلة التنسيقات الأمنية، هو رأس المعارضة. ويندرج في مستويات ثلاث، الأول، القوى أو الأجنحة المتطرفة والإرهابية والتي سترفض التطبيع، أو لا تصلح للتوظيف في المواجهة ضد قوات سوريا الديمقراطية، فسيكون مصيرها التصفية، وستدفع ثمناً باهظاً. وسيلاقي هذا الاستحقاق في جانب منه موقعاً متقاطعاً مع الرغبة الدولية وحتى الروسية، وستضطر السياسة الأردوغانية إلى القبول به. وكان الصحفي التركي البارز “حسني محلي” قد تنبّأ بحصوله قبل نحو ثلاث سنوات وعشية مقتل “البغدادي”. المستوى الثاني، هو نسق القوى والحركات المرتبطة ارتباطاً عضوياً بالدولة التركية والمؤتمرة بأمر استخباراتها، وهذه لا خيار أمامها سوى تنفيذ الأوامر التركية والانخراط في قطار التسوية، وسيُهمس في أذنها أن الانصياع لدواعي التسوية، وبالتالي العودة إلى حضن سلطات دمشق، هو خطة مبيّتة لأدوار لاحقة، وقد يكون الأمر كذلك في الحسابات الأردوغانية. ومن يتابع مقالاً نشره اللواء المنشق “مصطفى الشيخ” قبل أيام قليلة؛ يشم رائحة من هذا النوع، ويلمس أن عملاً منسّقاً، أو تنويماً يكاد يكون مغناطيسياً تقوم به المخابرات التركية تجاه أتباعها، للترويج إلى أن التقارب مع السلطات السورية ما هو إلا صيغة من صيغ الاستلام والتسليم لملف سوريا بكامله، وبرضى الامريكان إلى أنقرة، وعلى وهم أن السلطة في دمشق قد صارت بحكم المنتهية، وما التطبيع إلا شكلاً من أشكال توريث تركة سلطات دمشق إلى أردوغان.
المستوى الثالث، ويتعلق بالتجذيرات الموضوعية في أي صراع ذات طبيعة فكرية وطبقية اجتماعية، والذي تُدلّل مسطرة القياس فيه إلى أن القوى الديمقراطية الوطنية وأصحاب النزعات المدنية والعلمانية في حراك ما سمي بـ”الثورة السورية”، لا مفرَّ لها عند مفترق الطرق الذي وصل إليه الوضع السوري من الاستقطاب والتمركز حول نواة المشروع الوطني الديمقراطي، وكتلته الصلبة المتمثلة ببرنامج وتجربة مجلس سوريا الديمقراطية. فالعقل والموضوعية لا تُرشِّحُ أي خيار آخر، وأن صيرورة الأحداث وتطور الوقائع؛ تشير إلى أن عملية استقطابٍ وتجذيرٍ تحصل في مواقف النخب والرموز في العملية الوطنية والتاريخية الجارية الآن في سوريا، وتظهر تجلياتها في الاستدارة الواضحة والجريئة التي بدأت تظهر مؤخراً، في كتابات من أمثال “محي الدين لاذقاني” وقبله الناشط المثقف “غسان إبراهيم”، وفي ما باتت تلح على توضيحه إفادات مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان “رامي عبد الرحمن”، وما تومئ إليه إضاءات العميد المنشق “أحمد رحال”، وغيرهم كثيرون.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..