هل تنقذ روسيا نظام أردوغان المأزوم؟
جميل رشيد
يعيش أردوغان ونظامه تخبُّطاً سياسيّاً، فقد معه بوصلته، وانبرى يوزِّعُ الاتّهامات يميناً وشمالاً على جميع خصومه، حتّى على من كان حليفاً له في الأمس القريب، في مسعى لضمان فوزه في الانتخابات القادمة.
ركَّزَ أردوغان جُلَّ اهتمامه في هذه الفترة، على تحشيد الرَّأي العام الدّاخليّ، ومعه الخارجيّ، إلى حَدٍّ ما، لكسب الدَّعم في شَنِّ عدوانٍ جديدٍ على مناطق روج آفا وشمال وشرق سوريّا، بعد أن وجد فيها الفرصة الوحيدة أمامه لإعادة شعبيّته المتدهورة، بفعل سياساته الطائشة واللا مسؤولة التي أودت بتركيّا لتدخل في أزمات اقتصاديّة وسياسيّة وأمنيّة متلاحقة، انعكست بشكل مباشر على زيادة البطالة وانخفاض قيمة اللّيرة التركيّة أمام الدّولار الأمريكيّ، فضلاً عن حالة العداء المستفحلة بينها – أي تركيّا – ودول محيطها، فعاد ليهدِّدَ اليونان ويدَّعي بأنَّه أنتج جيلاً جديداً من الصَّواريخ تستطيع الوصول إلى الأراضي اليونانيّة.
استجداءات أردوغان من عدّة دول بالسَّماح له بشَنِّ العدوان؛ تأتي في سياق الوضع المزري الذي يَمُرُّ به نظامه، بعد أن وصل إلى آخر مراحله في التَّصعيد العسكريّ ونشر الفكر الإرهابيّ المتطرِّف والإيديولوجيّة الدّينيّة، إن كان في المنطقة أو داخل تركيّا، ويعتمد على تلك الفئة بشكل أساسي في إحداث الفوضى الخلاقة، ليوظِّفها في خدمة أهدافه السِّياسيّة، وأوَّلها الانتخابات، رغم أنَّ ذاك النَّهج الشَّعبويّ المتطرِّف تسبَّبَ في كوارث حلَّت على دول وشعوب منطقة الشَّرق الأوسط، بدءاً من سوريّا والعراق وليبيا واليمن ومصر وأذربيجان ودول أخرى، تدخَّلَ فيها أردوغان بصلافة ودون وجه حقٍّ.
إنَّ توسُّلات أردوغان من بوتين لإنقاذه هو ونظامه لاستمراره في السُّلطة وتمكينه للفوز في الانتخابات القادمة، عبر منحه الضوء الأخضر في شَنِّ العدوان، يمكن قراءته ضمن سياق أنَّ الاثنين متورّطان في أزمات عديدة، أوَّلها تدخُّلهما السّافر في عدّة بلدان، وأنَّ الديكتاتوريّات تغذّي بعضها. فإن كانت سوريّا هي الملعب المشترك بينهما؛ فإنَّ أوكرانيا، وبعد الحرب الرّوسيّة عليها، استطاعت أن تتحوّل إلى مركز الاهتمام الأوَّل لبوتين، بحكم موقعها الجيوسياسيّ في حسابات الدَولتين والولايات المتّحدة وأوروبا أيضاً. فالمقايضات والمساومات بين أردوغان وبوتين على الجغرافيا السُّوريّة تتحوّل إلى مكاسب للطرفين، وبما يرضي غرورهما ومصالحهما.
روسيّا التي تَمُرُّ بفترة عصيبة من حربها في أوكرانيا، تسعى بشتّى الوسائل إلى إيجاد مساحة من المناورة مع حلف النّاتو والولايات المتّحدة، وبما يخفِّف عنها وطأة هزيمتها البدائيّة في أوكرانيا، بعد أن مُنِيَت بخسارة مدوّية في “خيرسون” ومناطق أخرى فرضت سيطرتها عليها في بداية حربها. وهي في ذلك تُبدي استعدادها على استخدام تركيّا حصان طروادة داخل النّاتو، مقابل السَّماح لها باحتلال مزيد من الأراضي السُّوريّة. هذه الإستراتيجيّة اعتمد عليها كُلٌّ من بوتين وأردوغان؛ اعتقاداً منهما أنَّها ستؤخِّرُ من انعكاس تداعيات الحرب في سوريّا وأوكرانيا عليهما وعلى نظاميهما.
عوَّدتنا روسيّا على إجراء مثل هذه المقايضات خلال سنَّي الأزمة السُّوريّة، ولا يُستبعد أن تلجأ إليها في هذه الآونة أيضاً. فالاتّصالات المكثَّفة بين أردوغان وبوتين لم تتوقّف. ففي حين أعلن أردوغان أنَّه على استعداد لحضور قمَّةٍ تجمعه هو وبوتين والرَّئيس السُّوريّ بشّار الأسد؛ أكَّدَ أنَّ بوتين تلقّى “العرض” وفق توصيفه “بإيجابية”. بالمقابل نشرت عدَّة وسائل إعلام محلّيّة ودوليّة بأنَّ الرَّئيس السُّوريّ رفض العرض التركيّ، وأشارت إلى أنَّه سينتظر إلى ما بعد الانتخابات التركيّة، ووصفت الرَّفض السُّوري بأنَّ الأسد ردَّ على بوتين بأنَّه “لن يُقدِّمَ فرصةً لفوز أردوغان في الانتخابات على طبق من ذهب”.
ما يلفت الانتباه في هذه المسألة أنَّ أردوغان المتفاخر والمتباهي والذي ادَّعى في فترات سابقة بأنَّه سيصلّي في الجامع الأمويّ، ورمى الرَّئيس الأسد بأقذع الصفا، من قبيل أنَّه “قاتل” وما إلى ذلك، الآن يستجديه لإنقاذه من الهزيمة الماحقة التي تنتظره في الانتخابات. ورغم أنَّ وزير خارجيّته لم ينكر إجراء اتّصالات واجتماعات بين استخبارات البلدين، إلا أنّه عاد ليكشف مخطَّطَ أردوغان في إجراء المصالحة مع الحكومة السُّوريّة، عبر تسلسل يبدأ من التَّنسيق الاستخباراتيّ، يتبعه اجتماعات بين وزيرَي الدِّفاع والخارجيّة في البلدين، ثُمَّ تتوَّج بقمَّةٍ بين الرَّئيسين.
تنفيذ المخطَّط التركيّ مرهونٌ بشرطين سوريّين، لا يمكن تجاهلهما بأيِّ حالٍ من الأحوال: أوَّلهما؛ انسحاب تركيّا من جميع المناطق التي تحتلّها، وثانيهما؛ حَلُّ جميع الفصائل الإرهابيّة التي تدعمها. ولا يمكن للحكومة السُّورية تجاهل هذين الشَّرطين، لأنَّها تعتبر بالنِّسبة لها مسألة سياديّة ووطنيّة لا يمكن أن تتمّ أيّ مصالحة دونهما، إضافة إلى أنَّها ترتبط بوجوده كنظام يسعى إلى ترميم نفسه وإعادة توازنه السِّياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، وهي فرصة له كي يعزِّزَ مكانته.
العداء التركيّ للكُرد في جميع أجزاء كردستان، ترجمته دولة الاحتلال من خلال العدوان العسكريّ الشامل الذي تشُنُّه على مناطق جنوب كردستان، وروج آفا وشمال وشرق سوريّا، وهو دأبُ الحكومات التركيّة المتعاقبة. فحتّى رئيس وزراء السّابق والمعارض لأردوغان أحمد داود أوغلو أيَّدَ العدوان على مناطق شمال وشرق سوريّا.
إنَّ صدور بيان من القاعدة الرّوسيّة في حميميم، والذي أوضح بأنَّ تركيّا قصف مقرّات “وحدات حماية الشَّعب، وأنَّ القوّات الكُرديّة التزمت الصَّمت ولم تَرُد”، وكذلك البيان الصادر عن رئيسة الهيئة التنفيذيّة لمجلس سوريّا الدّيمقراطيّة “إلهام أحمد” بأنّه لم يتلقّوا أيّ تأكيدات من روسيّا بأنَّها وافقت على عدوان تركيّ على مناطق روج آفا وشمال وشرق سوريّا؛ بعد ادّعاء وسائل إعلام تركيّة بأنَّ بوتين وافق على شَنِّ العدوان؛ وهذا التَّضليل الإعلاميّ من قبل أردوغان وآلته الإعلاميّة يعكس حجم الأزمة الدّاخليّة التي يَمُرُّ بها هو ونظامه، إلى جانب اعتماده على الخارج في عمليّات العدوان على شَنَّها في السّابق.
البيان الرّوسيّ يشير إلى أنَّ روسيا لم تمنح أردوغان موافقتها على شَنِّ العدوان، وثَمَّةَ خلافات وترتيبات بين الطرفين، يستوجب تسويتها قبل ذلك؛ منها الضغط على أردوغان وتركيّا في تنفيذ الاتّفاقيّات السّابقة بينهما، وأوَّلها اتّفاقيّة سوتشي عام 2018 والقاضية بفتح الطريق الدّوليّ (M4) الواصل إلى اللّاذقيّة، وهذا لا يمكن أن تنفِّذُهُ تركيّا، بعد أن اعتمدت على “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً” في تكريس احتلالها على مناطق مختلفة في سوريّا. وقد تلجأ روسيّا المأزومة أيضاً إلى التّوافق مع أردوغان في نهاية المطاف، إلا أنَّ الموقف المعارض للولايات المتّحدة يُشكِّلُ عامِلَ كَبحٍ لأيّ توافق روسيّ – تركيّ في هذا المضمار.
التَّصعيد التركيّ الإعلاميّ والبروباغندا المصحوبة بتحرّكٍ دبلوماسيّ مع روسيّا ودول الجوار، يصطدم بالدَّرجة الأولى بالمعارضة الأمريكيّة لأيِّ عدوان، فاستئناف العمليّات العسكريّة المشتركة بين قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وقوّات التَّحالف الدّوليّ ضُدَّ تنظيم “داعش” الإرهابيّ، وصدور تأكيدات من عدَّةِ مسؤولين أمريكيّين بأنَّ أيَّ عدوانٍ على المنطقة سيعرّض حياة القوّات الأمريكيّة المتواجدة فيها للخطر، دليلٌ إضافيٌّ على أنَّ الولايات المتّحدة ليست في معرض الموافقة على أيِّ عدوان، على العكس من ذلك، فإنَّ إحدى أهداف إدارة الرَّئيس الأمريكيّ بايدن هي الإطاحة بأردوغان ودعم المعارضة، وفق ما أعلن بايدن في حملته الانتخابيّة، وزيارة رئيس حزب الشَّعب الجمهوريّ التُّركيّ “كمال قليجدار أوغلو” إلى الولايات المتّحدة في وقت سابق من هذا العام، تأكيدٌ على توجُّهات إدارة بايدن، وهو ما يثير مخاوف أردوغان بشكل جدّيٍّ.
أردوغان الباحث عن ثقب صغير ولو من خُرمِ إبرةٍ كي يتنفس منه وينقذ نظامه من ارتدادات سياساته العدائية تجاه دول وشعوب المنطقة، ضاقت عليه مساحات المناورة واللّعب بين روسيّا والولايات المتّحدة، بعد أن تكشَّفت الخطوط العريضة لمستقبل المنطقة، وأوَّلها في سوريا. فالتأكيدات الصادرة من عدَّة جهات دوليّة فاعلة في الأزمة السُّوريّة، بأنَّ زمن التَّصعيد والعودة بسوريّا إلى المربَّع العنفيِّ الأوّل قد ولّى، وإعادة خلط الأوراق من قبل أردوغان لن تجديه نفعاً في إنقاذ نظامه الذي تتداعى أركانه، بل إنَّ دفع فاتورة تهوّراته وارتكابه المجازر والانتهاكات ضُدَّ الشَّعب السُّوريّ، وخاصَّةً الكُرديّ، باتت جاهزة على الطاولة، وفي مقدِّمتها الانسحاب غير المشروط من الأراضي التي يحتلّها، وقطع دعمه للميليشيّات الإرهابيّة، وهو ما تُصِرُّ عليه الحكومة السُّوريّة.
بات مؤكَّداً أنَّ أردوغان السّاعي إلى استغلال كُلّ التطوّرات في المنطقة وتركيّا لصالح دعم موقفه في الانتخابات القادمة، سيبدّل من اتجاهاته السِّياسيّة وتحالفاته، مقابل تشديد قبضته الأمنيّة والدّيكتاتوريّة في الدّاخل، وقضيّة عزل رئيس بلديّة إسطنبول أكرم إمام أوغلو عن السِّياسة والحُكمَ عليه بالسِّجن على غرار ما فعله مع رئيس حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّ (HDP) صلاح الدين دميرتاش، فإنَّه يراكم من العقبات والمصاعب أمام فوزه، فرغم أنَّ المعارضة كانت تأمل بالإجماع على ترشيح إمام أوغلو كمرشَّح منافِسٍ لأردوغان في الانتخابات؛ فإنَّ إزالته من طريقه يضيف المزيد من الشَّعبيّة على رصيد أحزاب المعارضة السِّتة، التي تحالفت ضمن ما أطلقت عليه “الطاولة السّادسة”، وكذلك يزيد من التفاف التيّارات الدّيمقراطيّة واليساريّة حول (HDP)، ما يعني أنَّ خطوة أردوغان في عزل إمام أوغلو سترتدُّ عليه سلباً.
فإن كانت عمليّات العدوان السّابقة على روج آفا وشمال وشرق سوريّا قد ألهبت مشاعر القوميّين الأتراك المتطرّفين، وتمكَّن أردوغان من استثمارهم في معاركه الانتخابيّة؛ فإنَّ معادلات الأمس لا تتطابق مع وقائع اليوم، والمناخ الإقليميّ والدّوليّ يقف بالضُدِّ من رَغَبات أردوغان وحلمه في الفوز بالانتخابات.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..