روسيا.. ازدواجية المعايير وضياع البوصلة في سوريا
جميل رشيد
شَكَّلَتْ زيارة قوّات القوّات الرّوسيّة في سوريّا الجنرال ألكسندر تشايكو إلى مناطق الإدارة الذّاتيّة، ومرَّتين خلال أسبوع واحد، تطوّراً لافتاً في الموقف الرّوسيّ من التَّهديدات التي تُطلقها تركيّا بشَنِّ عدوان على مناطق شمال وشرق سوريّا، رغم التَحفُّظات والملاحظات التي أبدتها الإدارة الذّاتيّة على مدى التزام الرّوس بتعهّداتهم حيال الاتّفاقيّات التي وقَّعتها مع تركيّا، وممارسة الضغوط عليها للالتزام باتّفاقيّة وقف إطلاق النّار، ومدى حرصها على وحدة الأراضي السُّوريّة وسيادتها.
المواقف الرّوسيّة، ومنذ بدء احتلال تركيّا لمنطقة عفرين، تُثير الكثير من المخاوف، لجهة التّفاهمات التي تجريها مع تركيّا، خاصَّةً في إطار ما يُسمّى بـ”اجتماعات أستانا”. وظلَّت روسيّا تفضِّل مصالحها الاقتصاديّة والإقليميّة مع تركيّا على تعهّداتها كدولة عظمى لها دور كبير في الأزمة السُّوريّة. فرغم الزّيارات المتكرّرة لوفود من الإدارة الذّاتيّة إلى موسكو، وعقدها لقاءات هامّة مع وزير الخارجيّة الرّوسيّ لافروف؛ إلا أنَّ روسيّا لم تلتزم بأيٍّ من تلك التَّفاهمات، وظلَّت أسيرة هواجسها المتعلّقة بدعم الحكومة السُّوريّة، وبأيِّ شكلٍ كان، ولو على حساب السِّيادة السُّوريّة. إنَّ وقوف روسيّا مع تركيّا وتأييدها لكُلٍّ عمليّات عدوانها على الأراضي السُّوريّة، إنَّما يقوِّض دور الحكومة السُّوريّة في إعادة بسط سيادة الدَّولة على مناطق تحتلّها تركيّا. كان من الأجدى لروسيّا أن تسعى إلى تحرير الأراضي التي تحتلُّها تركيّا، لا أن تتَّهم الإدارة الذّاتيّة بأنَّها تسعى إلى الانفصال بدعم من الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
لم تلعب روسيّا دوراً نزيهاً في سوريّا، ولم تحاول أن تُطلق أيَّ حوارٍ بين الإدارة الذّاتيّة والحكومة السُّوريّة، لتكون مقدِّمَةً نحو حوار سوريٍّ – سوريٍّ موسَّعٍ، يمكن أن يساهم في إنهاء الأزمة السُّوريّة، بل انحازت إلى تركيّا، ولم تراعِ حتّى مصالح الحكومة السُّوريّة أيضاً.
فالصيغة التي تطرحها موسكو بإعادة تفعيل منطق “المقايضات والمساومات” على غرار ما تَمَّ في حلب والغوطة ومناطق أخرى في سوريّا، محكومة بالفشل، وتزيد من تعقيد الأزمة السُّوريّة. المخطَّطُ الرّوسيّ الدّاعي إلى مقايضة مناطق من إدلب، وبشكل أدقٍّ؛ الطريق الدّوليّة (M4) المارّ من جنوب إدلب والواصل إلى اللّاذقيّة، مقابل السَّماح لتركيّا باحتلال مدينة كوباني، هو مخطَّطٌ يَهدف بالدَّرجة الأولى إلى تقسيم الأراضي السُّوريّة، إضافة إلى تغيير ديمغرافيّة سوريّا، وهو شرعنة للاحتلال التُّركيّ، فضلاً عن أنَّه يعكس ازدواجيّة وتناقضاً في الخطاب الرّوسيّ حيال سوريّا. فهي تدَّعي أنَّها حريصة على وحدة الأراضي السُّوريّة، في حين تُسلِّم تلك الأراضي، وعلى طبقٍ من ذهب، إلى تركيّا وتفاضلها مع مصالحها.
ففي حين أعلن مبعوث الرَّئيس الرّوسيّ لافرنتييف بأنَّ روسيّا لا تربط بين الدَّور التُّركيّ في أوكرانيا وسوريّا، نجد بأنَّها تحاول تصفية حساباته مع الولايات المتَّحدة على الأراضي السُّوريّة. فبعد الهزائم التي مُنِيَ بها الجيش الرّوسيّ في أوكرانيا، وخاصَّةً بعد استعادة الجيش الأوكرانيّ مدينة “خيرسون” الإستراتيجيّة، شعرت روسيّا بأنَّها أضعف ممّا كانت سابقاً، خاصَّةً في سوريّا، وهي تبحث عن حليف تستنجد بها كي تعزِّزَ من مواقعها وتستعيدَ دورها في سوريّا، بعد أن أدركت بأنَّها فقدت فاعليّتها السّابقة في التأثير على العديد من الملفّات في الأزمة السُّوريّة، مثل ملفّ اللّاجئين، وحمل تركيّا على تنفيذ التزاماتها ضمن الاتّفاقيّات التي وقَّعتها معها. تعتقد روسيّا أنَّ إطلاق يد تركيّا في سوريّا، يمكن أن يخفِّفَ عنها الضغط في أوكرانيا، رغم قناعتها التامَّة بأنَّ تركيّا لا تُغرِّد خارج سرب النّاتو بأيّ شكل من الأشكال، إلا أنَّها، على الأقلّ، تحاول تحييد دورها في أوكرانيا عبر منحها امتيازات في سوريّا، ولو كانت على حساب الشَّعب السُّوريّ، وبالخصوص الكُرد.
ما تبيَّنَ خلال مسار الأزمة السُّوريّة، ومنذ تدخُّلِ روسيّا في أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2015، وحتّى الآن، بأنَّه لا يمكن لروسيّا أن تتصرَّف بأيِّ من ملفّات الأزمة السُّوريّة وحدها، دون التَّوافق مع الولايات المتّحدة. فبعد الاتِّفاق الذي وقَّعته الدَّولتان عام 2016، وما أطلق عليه اسم اتّفاقيّة “لافروف – كيري”، وقسَّموا مناطق النُّفوذ في سوريّا بينهما، وأطلقوا تسمية “شرق وغرب الفرات” على مناطق الإدارة الذّاتيّة، ورغم محاولات روسيّا طرح مشاريع حلول للأزمة السُّوريّة وبما يتوافق مع مصالحها، عبر مسارات أستانا وسوتشي، إلا أنَّها كانت محكومة بالفشل، لتعارضها مع الإرادة الدّوليّة لحَلِّ الأزمة السُّوريّة، وخاصَّةً قرارات مجلس الأمن، ومع توجُّهات الولايات المتّحدة، فبات معروفاً للقاصي والدّاني أنَّ الأخيرة ممسكة بجميع خيوط اللّعبة في سوريّا، ولا يمكن لروسيّا أن تُحرِّكَ أيَّ ملفّ دون الموافقة، وهذا يسري على منحها الضوء الأخضر لتركيّا بشَنِّ العدوان على مناطق شمال وشرق سوريّا أيضاً.
المناورة الرّوسيّة الأخيرة المتمثّلة في ممارسة الضغوط على الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، في وضعها أمام خيارين، أحلاهما مُرٌّ؛ إمّا تسليم مناطق شمال وشرق سوريّا، بكُلِّ ما تمتلكه من ثروات وإمكانات وموارد إلى الحكومة السُّوريّة، وحَلّ قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وانضمامها إلى قوّات الحكومة السُّوريّة، وفق صيغة شبه “استسلامية”، أو منح تركيّا الضوء الأخضر بشَنِّ غزوٍ برّيّ، إنَّما يُعبِّرُ عن منطق لا يتوافق مع سلوك “دولة عظمى” تسعى إلى فرض احترامها على جميع أطراف الأزمة السُّوريّة.
لم يطرأ أيُّ تحوُّلٌ يُذكر على موقف روسيّا من الإدارة الذّاتيّة، رغم إبداء الأخيرة مقاربات إيجابيّة منها، فبعد التَّعاون الذي حصل بين وحدات حماية الشَّعب وسلاح الجوّ الرّوسيّ عام 2016، والتي أفضت إلى تحرير مناطق الشَّهباء، بما فيها بلدة تل رفعت، لم يصدر من روسيّا أيُّ تحرُّك ملحوظ من شأنه أن يساهم في تحرير الأراضي التي تحتلّها تركيّا، لطالما هي كانت جزءاً من الصفقات والمساومات مع تركيّا على الأراضي السُّوريّة.
إنَّ تغيير قائد القوّات الرّوسيّة في سوريّا في هذه الفترة العصيبة التي تمُرُّ بها سوريّا، ورغم التَّصريحات الصادرة من موسكو، بأنَّ إحدى أولويّات الجنرال الجديد أنَّه سيسعى إلى إيجاد تفاهمات بين الإدارة الذّاتيّة وحكومة دمشق، لكن تدور شكوك كثيرة حول نوايا روسيّا في لعب هذا الدَّور. فزيارة وفدٍ روسيٍّ إلى تركيّا أوَّل أمس، هي موضع تساؤلات كبيرة من قبل الإدارة الذّاتيّة والشّارع السُّوريّ بشكل عام. تكهَّن العديد بأنَّ الوفد نقل موقف الإدارة الذّاتيّة إلى تركيّا، لكنَّ روسيّا عوَّدت السُّوريّين على إجراء تفاهمات تحت الطاولة مع الأتراك، ولم تكن تلك التَّفاهمات في مطلق الأحوال مع مصلحة الشَّعب السُّوريّ.
فإنْ كانت روسيّا تتَّهم الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة بالتَّعاون مع التَّحالف الدّوليّ والولايات المتّحدة؛ وهو الخيار الوحيد المُتاح أمام الإدارة الذّاتيّة، في ظِل تمترس روسيّا خلف مواقفها الدّاعمة لتركيّا، كان من المفيد لروسيّا وحكومة دمشق والإدارة الذّاتيّة، أن تسعى روسيّا إلى استقطاب الإدارة الذّاتيّة، وتقديم محفّزات لها، كي تقتنع الأخيرة بالتوجّه نحوها وإضعاف اعتمادها على الولايات المتّحدة، ووفق آليّات ووقائع على الأرض، أقلُّها فتح المجال أمام تحرير الأراضي التي تحتلّها تركيّا، وهي في النّهاية تصُبُّ في مصلحة الدَّولة السُّوريّة وتبسط سيادتها على كامل أراضيها، وبهذا الشَّكل تُمَهّد الأرضيّة لالتقاء مصالح الإدارة الذّاتيّة مع الحكومة السُّوريّة، لا أن تكون “تفاهمات قسريّة” وتحت الضغط، وهو ما ترفضه الإدارة الذّاتيّة.
فبالرَّغم من أنَّه لم تتسرَّب أيُّ معلومات عن لقاء الجنرال الرّوسيّ بقائد قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة الجنرال مظلوم عبدي، إلا أنَّه قياساً بمنطق المقاربات الرّوسيّة السّابقة، لا يُعتقد أن قَدَّمَ الرّوس أيّ ضمانات بعدم شَنِّ تركيّا عدوانٍ على مناطق شمال وشرق سوريّا، فالمواقف المتقدِّمة التي صدرت من معظم المؤسَّسات الفاعلة في الولايات المتّحدة، بدءاً من وزارة الدِّفاع (البنتاغون) والخارجيّة والاستخبارات، ومعارضتها القويّة لأيّ عدوان، لم يقابله أيُّ تصريحٍ مشابهٍ من قبل المسؤولين الرّوس، بل على العكس من ذلك؛ اتَّهم وزير الخارجيّة الرّوسيّ لافروف الكُردَ والإدارة الذّاتيّة بـ”الانفصاليّة”، وعلى ضوء هذه “اللا تفاهمات” بين الإدارة الذّاتيّة وروسيّا، أحكمت الحكومة السُّوريّة حصارها على حيّي الشّيخ مقصود والأشرفيّة ومناطق الشَّهباء، ومنعت دخول المحروقات والمواد الغذائيّة والطبيّة إليها. ففي ظلِّ هذا الشّتاء القارس، يعيش مهجَّرو عفرين القسريّون ظروفاً إنسانيّة سيّئة، من توقّف جميع المرافق العامّة والمشافي وتهديد حياة المدنيّين.
يتأمَّلُ السُّوريّون من روسيّا أن تلعب دوراً منحازاً لمصالحهم، وبما يساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في بلادهم التي أنهكتها الحرب والحصار والأزمة الاقتصاديّة، وأن تكون روسيّا داعماً للسوريّين كلَّهم، على اختلاف انتماءاتهم وتوجّهاتهم السِّياسيّة، لا أن تتَّبع سياسة انتقائيّة تتناسب مع مصالحها فقط، وأن تتعامل مع الإدارة الذّاتيّة بما يساهم في لملمة الجراح السُّوريّة ورأب الصدع وإصلاح ذات البين، ويبدو أنَّ استقبال وزير خارجيّتها لافروف لرئيس تيار الغد “أحمد الجربا” يأتي نكاية بالإدارة الذّاتيّة، رغم قناعتها أنَّ “الجربا” لا يمثّل قوَّة ذات شأن على الأرض السُّوريّة.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها