الإدارة الذاتية ودبلوماسيتها الناعمة
محمد عيسى
إن مجلس سوريا الديمقراطية وتجربة الإدارة الذاتية في مناطق شمال وشرق سوريا، ومنذ ولادته كثمرة لحراك السوريين ونضالهم من أجل التغيير الديمقراطي وبناء مجتمع الحداثة والكرامة والعدل؛ ما انفك يخوض نضالاً متعدد الأشكال والمهام، بقصد تقديم نفسه للشعب السوري وللعالم على أنه الطريق الآمن الوحيد الذي يُخرج السوريين من أزمتهم، ويكرّس السلم والاستقرار في الإقليم، وهي خطوة أكيدة سيكون من شأنها لعب دور في تعزيز السلم العالمي.
هذا الجهد وهذه المهمة التاريخية شاءت الصدف أن تدور في ظروف هي الأعقد والأصعب في بقاع الجغرافيا البشرية، حيث تتوفر للاستبداد والاغتراب والتجهيل بيئة خصبة في البناء الفوقي للمجتمع، وحيث تقدم الثقافة الميثولوجية المتجذّرة سنداً تظنه أخلاقياً لنموذج الدولة القومية الشمولية المستبدّة ولمفرزاتها، في ولادة قيم التطرّف والإرهاب، وما “داعش والنَّصرة” وأخواتهما غير الدليل والابن الشرعي لهذه الثقافة وهذا المناخ.
وفي مطلق الأحوال كان على خط تحالف القوى المنضوية تحت راية مجلس سوريا الديمقراطية أن تجيب على أسئلة عدّة وأن تنجح حيث أخفق غيرها من صنّاع الحرب والفقر والتخلف. وبلا ريب فهي قد ولجت في مباراة وتواجه قواعد اشتباك، يتطلب الفوز بها وضوح النظر، أولاً، والعزم والإرادة وروح التضحية، ثانياً. ثم وقبل كل ذلك، ملامسة روح العصر، ومخاطبة العقل، وتشكيل الرأي العام الداعم على المستوى الوطني، وعلى مستوى الرأي العام العالمي.
فطبيعة المعركة وأطراف الصراع المحليين في دوائر الإسلامويين والقومجيين والاستبداديين وكل روافع الارهاب وامتداداتهم الإقليمية والدولية، كانت في حسابات الصراع وطرفاً في معادلة الفوز والانتصار.
وفي ترجمة هذه الحقائق والمنطلقات على الأرض؛ جاءت مؤتمرات الحوار السوري – السوري (واحد، اثنان، وثلاثة) في عين عيسى وغيرها واحد بين عامي 2018 و2019، ثم جاء ملتقى العشائر السورية في مايو/ أيار 2019، ومؤتمر العشائر العربية، وأخيراً مؤتمرات الرقة والقامشلي في سبتمبر/ أيلول من هذا العام، كما جرى تنظيم العديد من ورشات العمل والحوار في الكثير من مدن وعواصم دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا والاتحاد الروسي وفي دول عديدة، وقد نشطت مكاتب تمثيل الإدارة الذاتية في العديد من عواصم العالم في إجراء اتصالات وتنظيم اللقاءات مع حكومات الدول المعنية وبرلماناتها ومع هيئات المجتمع المدني ومؤسساته الاجتماعية والثقافية ومع الاحزاب والقوى ذات الشأن.
ومما يجدر ذكره أن وفداً عالي المستوى من طرف الإدارة الذاتية قد زار أخيراً قصر الإليزيه في باريس والتقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتبادل معه وجهات النظر حول طرق حل الأزمة السورية، وقد ضم الوفد كلاً من رئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديموقراطية السيدة إلهام أحمد والرئيسة المشتركة للمجلس التنفيذي للإدارة الذاتية بيريفان خالد، كما زارت وفود أخرى وللغاية نفسها الولايات المتحدة الأمريكية والتقت بممثلين عن الإدارة الأمريكية وبأعضاء في الكونغرس، ووفد آخر زار روسيا الاتحادية والتقى المبعوث الخاص للرئيس بوتين إلى الشرق الأوسط وإفريقيا وبنائب وزير الخارجية بوغدانوف. وفي سياق متصل؛ قامت وفود أخرى بإجراء اتصالات مع كل من السويد، كتالونيا، الدانمرك، فنلندا، والنمسا.
من جهتها زارت وفود عديدة من دول العالم المهتمة بالشأن السوري ومن ممثلي منظمات المجتمع المدني مناطق الإدارة الذاتية، كان من أهمها في الفترة الأخيرة زيارة وفد من الخارجية الفرنسية مكتب متابعة الأزمات، واصطحب معه حوالي خمسين من النساء والأطفال من الرعايا الفرنسيين المحسوبين على “داعش”.
ولم تتوقف جهود الإدارة الذاتية في التواصل مع المجتمع الدولي، وفي البحث والنقاش في تطورات الأزمة السورية وطرق حلها. وقد جاءت جهود التحضير لمؤتمر القوى الديمقراطية، وما تبعها من لقاءات تشاركية ضمن حملة التفاعل نفسها.
بالمجمل يمكن القول؛ إن جهوداً لا يُستهان بها قد بُذلت – وما زالت تُبذل – لمخاطبة أوساط الرأي العام العالمية؛ بقصد شرح وتوضيح ملابسات الصراع الدائر على الأرض السورية، وتعرية وفضح قوى الإرهاب وممارسات الدول الداعمة له، سيما الدور التركي المتورط بشكل عميق ومكشوف في رعاية هذا الإرهاب وتوظيفه لخدمة المخططات التركية في الهيمنة والتوسع وتحقيق المكاسب. في المقابل يبرز فهمٌ متزايدٌ من قبل المجتمع الدولي للوحة الصراع، ونلمس تفهُّماً لافتاً للدور الاستثنائي الذي تلعبه الإدارة الذاتية في مواجهة مخاطر الإرهاب والظلام والتخلف.
وفي ظل التنافس الدولي الحاد على سوريا وعلى مستقبل المنطقة؛ صار واضحاً حجم المكانة التي يشغلها (مسد) ومشروعها ومعها الإدارة الذاتية لدى تلك الأطراف، خاصة بعد ان دخل الصراع العالمي، بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية ووصولها عتبة التهديد باستخدام أسلحة الدمار الشامل.
وعلى وقع إعلان النوايا الذي أفرزته هذه الحرب، لجهة اصطفاف روسيا إلى صف الدول صاحبة المشاريع الإسلامية كإيران وتركيا، أو محاولتها استقطاب المشاعر الإسلامية في صراعها مع الغرب الداعم لأوكرانيا، عبر تطعيم معركة تحاول روسيا أن تجعلها إيديولوجية، فتسوِّق لمفاهيم “العدمية الأخلاقية” وتبنّي المثلية الجنسية عند الغرب وغير ذلك من محاولات استدعاء طرائق المواجهة أيام الحرب الباردة. وما بروز محور ما سُمّيَ بدول خط أستانه إلا مظهراً من مظاهر هذا الاستقطاب وواحداً من أهم تجلياته. فنحن هنا أمام محور ماضوي ويشد الوقائع إلى الماضي محاولاً إحياء معادلاته، يسوّق لهذا الماضي ويكرّس مفرزاته وحواضنه عبر الدولة القومية الشمولية والعقائدية ويعطل القرارات الدولية أو يلتف عليها، ومحاولاً التأثير على نظرة الشعوب وتطلعاتها نحو الحداثة والديمقراطية والعدل.
وبالمقابل؛ برز في المواجهة اهتمام محور آخر ودور مستجد أمريكي بارز. وفيما ساد انطباع في أوساط المتابعين بعد 2019 عن نيّة أمريكا الانسحاب من الشرق الاوسط، استتباعا لانسحابها الإشكالي والمباغت من أفغانستان، نلحظ أمرا معاكساً، ويزداد الحضور الأمريكي في أزمات المنطقة، ويزداد شكل تدخلها العسكري والسياسي في القضايا المُثارة، ويندرج دورها في تصفية قادة “داعش” المتتالي في الأراضي الواقعة تحت النفوذ التركي، كخطوة في هذا الاتجاه. وكذلك عدم إعطائها أي ضوء لأردوغان في الإجهاز على مشروع (مسد)، يُضاف إلى ذلك خطوتها في إعادة هيكلة ما سُمّي بـ”مغاوير الثورة” في التنف وتغيير اسمها، وأخيراً يأتي تصريح لناطق باسم البنتاغون، يقول فيه “لا نية لنا بالانسحاب من سوريا في العشرة سنين القادمة أو يزيد” ليؤكد حجم الاهتمام الأمريكي والغربي عموماً بوضع سوريا ومستقبل المنطقة عموماً.
ففي جو الصراع الآنف الذكر والمختلف في هويته ونظرته السياسية؛ تكتسب برامج (مسد) فرصها وتستحوذ فلسفتها السياسية القائمة على مبادئ العلمنة والديمقراطية والحداثة والعدل الاهتمام الذي تستحقه.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..