سلطة النظام على الدروز تمنعهم مرتين!
أيمن الشوفي
قبل أيام قطع بعض سائقي حافلات النقل العامة، وسائقي سيارات الأجرة، الطريق المحوري في مركز مدينة السويداء من جهتين، منادين بزيادة مخصصاتهم من وقود النقل الذي ترسله لهم حكومة دمشق “بالقطّارة”، إذ لا يزال الناس هنا يختبرون أشكالاً بدائية من الاحتجاج، تشبه التجريب السياسي بصورته العقيمة، الأكثرِ تكلّفاً، والأقل تنظيماً ومثابرة، ومقدرة على الإنتاجية السياسية بمعطياتها الكميّة القابلة للقياس والتطوير، وهم بمثل هذا الاحتجاج الضحل لا يحاكون نماذج الاحتجاج الأكثر فاعلية في مواجهة نظام حكم أوليغارشي متغوّل، هجين التكوين والمنابت، متسلّط وناهب إلى الحدود القصوى، وإنما يجرّبون الرفض كَسِمَةٍ تقارب تعبير السلوك الاجتماعي حين يكون غير مهادنٍ مع السلطة القائمة، أما النظام فله أن يجرّب في كل حين ترويج نفسه على أنه حالةٌ سياسية مستعصيةٌ على الانفراج أو التطور، وبهذا يسوّق أيضاً لديمومته كسمة ملازمة له، ويجنّد لأجلها الفكرة الأمنية دون مراجعة، وكأن فعل التاريخ معطّل لديه، أو بإمكانه إلغاؤه متى شاء.
المنع كرمزيّةٍ للقبضة الأمنية
يصطَّفُ المنع بمفهومه الإجرائي إلى جانب الإلغاء والعزل والاعتقال وغيرها من تجلّيات القبضة الأمنية للسلطة داخل الفضاء الاجتماعي، وغالباً ما يتّصف المنع بأنه أقل عنفاً لجهة الممارسة إن قورن بالاعتقال والتوقيف القسري، لكنه يفسّر آلية عمل العقل الأمني، ويبرهن في كل مرّة على اتّساع دائرة الأفعال الاجتماعية التي تستفز طبيعة تفكير النظام، وتوحي له بأن مكانته داخل الهرم الاجتماعي قد اهتزّت، وعليه أن يسارع لتدعيمها. وفي كثير من الأحيان لا يكون في نيّة الفعل الاجتماعي استفزاز عقل النظام الأمني، وإنما تفعّل “فوبيا” الاختلاف والخروج عن “التابو” أو حتى مجرد عدم نيل الموافقة الأمنية فعلها الاستفزازي داخل منظومة السلطة الأمنية، وهذه مقاربة غير عقلانية ولا تستند إلى المنطق، ولا تؤجج حججاً كافية لحدوث مثل ذاك الاستفزاز. وحده النظام السوري والأنظمة التي على شاكلته ترغب ببسط سلطة الخوف والامتثال لها، ثم تبدأ بتعميم الطاعة العمياء على المجتمع برمّته، وأي تطاول على ذاك الافتراض السلطوي يعدُّه النظام تحدّياً لهيبته الزائفة، المهتزّة الأركان، ويسارع إلى تطويقه وتفريغه من محتواه. وبالرَّغم من الخراب غير المحدود الذي استوطن الكيان السوري في العقد المنصرم من الزمن، غير أن النظام لا يزال يتوكَّأ على المعايير الأمنية ذات الطابع الاستبدادي، والتي أكالت الدمار للبلاد واستباحتها في الأمس القريب، الأمر الذي ينفي بصورةٍ قطعيّة أيَّ احتمال بأن يكون نظام دمشق قادراً على استيعاب كل ما حدث له، أو قادراً على تحديث نفسه، فإما بقاؤه على هذه الصورة القبيحة الكالحة التي هو عليها، أو تفكيكه بصورة نهائية، فلا إمكانية تتوسط الاحتمالين على الإطلاق.
مثالان على المنع في السويداء
كما باستطاعة النظام التعبير عن ماهيّته السلطوية باستخدامه للمنع أو التعطيل، ومؤخراً يمكن ملاحظة حدوث ذلك مرتين متتاليتين في السويداء، الأولى حين منعت السلطة الأمنية دخول وفدٍ من رجال دين لبنانيين دروز كانوا في زيارة إلى سوريا على رأسهم الشيخ أبو حسن عادل النمر، وهذه هي المرّة الثانية التي تمنع فيها سلطة النظام زيارة رجال دين لبنانيين دروز إلى سوريا، وغالباً ما يأتي هذا المنع على خلفية انقسام الولاءات الدينية لدروز لبنان بين جنبلاط وأرسلان، فنظام دمشق لا يرحب كثيراً بدخول مشايخ الدروز المحسوبين على الشيخ سامي أبي المنى، شيخ العقل المقرّب من المختارة وجنبلاط، في حين لا يمنع دخول وفودٍ دينية مشابهة، لكنها محسوبة على طلال أرسلان.
أما المثال الثاني على المنع؛ فكان من نصيب فرعي الأمن السياسي وحزب البعث في السويداء حين ألغَيا إقامة أمسية شعرية كان مزمعاً انعقادها في مسرح نقابة المهندسين، وتضم أسماء مثل عادل الحلبي، ولجين حمزة، وكمال عزّي، وربما جاء قرار المنع على خلفية أنّ الجهة المنظّمة للأمسية هي المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وهي أحد تشكيلات المجتمع المدني الناشطة داخل المحافظة، والتي يبدو أنها على قلّةِ وفاقٍ مع التركيبة الأمنية الحاكمة للسويداء، والتي أدانت قرار المنع، واعتبرته مخالفاً للدستور السوري المعدّل عام 2012 حين أعفى حزب البعث من مهام قيادة الدولة والمجتمع.
واللافت أن الخلفية السياسية هي العامل الحاسم في تصدير قراري المنع السابقين، سواء لجهة الوفد الديني، أم للجهة المنظمة للأمسية الشعرية، فالنظام السوري لا يزال متخماً بإرهاصات ما قبل عام 2011، حيث كان مستنفراً بكامل عتاده القمعيّ لكمِّ الأفواه، وإلغاء الاختلاف والرأي المعارض لسياساته، وكأن الحياة لم تكمل دورتها في سوريا بعد، وكأن النظام الأمني يجهل أن الناس العاديين باتوا يطلقون السباب علانيّة وفي الشارع وفي كل مناسبة تستوجب الشتم، غير آبهين بالنظام أو حتى برأسه وكأنهم يكنسون بها بعض خنوعهم، على الأقل هذا الملاحظ لدى العامة في السويداء، أما في سواها من مناطق سيطرة النظام فقد يكون الناس واقفين على ناصية الصمت المهين لهم ولآدميتهم المنتهكة بكل الذرائع الممكنة، وبلا أن تستدرَّ أي قسطٍ من الرحمة أيضاً.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..