في الحوار السوري _ السوري وأسبابه
محمد عيسى
أزمة مستمرة في سوريا حول شكلها ومستقبلها وحتى حول وجودها كدولة موحدة على خارطة الدول. أزمة مندلعة وتتفاقم منذ عقد ونيف من الزمن، ولا تلوح في الافق إلى الآن أية بارقة أمل مقنعة بالوصول إلى خارطة طريق تطمئن السوريين إلى مستقبلهم، أو تضع حداً لعذاباتهم. ورغم الضجيج الإعلامي والسياسي عن مبادرات هنا أو هناك، ورغم صدور العديد من البيانات والقرارات الدولية الرامية إلى إيجاد حل للصراع الدائر، إلا أن الأمر الذي يترك مجالاً للسؤال الكبير عن السبب، وعن دور السوريين، وعن مسؤوليتهم هم بالدرجة الأولى في تلمُّس طريقهم نحو الوصول إلى نهاية سعيدة في معالجة أزمتهم، أسوة بباقي الشعوب والدول.
نعم يبقى السؤال الأهم، هو سؤال السوريين لأنفسهم حول ضلوعهم في خلق أزمتهم وفي استمرارها. فإذا كان صحيحاً أنهم ليسوا جميعا على نفس الدرجة في تحمّل المسؤولية، وأن هناك أطرافاً أكثر ضلوعاً من غيرها في إنتاج الأزمة وفي وضع عراقيل في طريق حلها، لكن الثابت هو أنهم، وبصرف النظر عن العامل الخارجي، لم يرتقوا بعد، أو لم يفرزوا نخبهم أو تعبيراتهم السياسية القادرة على أن تكون على مستوى التحدّيات التاريخية لأزمة من مثل هذه الأزمة، طالما أنهم مازالوا يحتكمون للسلاح فيما بينهم، ولطالما أن الحوار الوطني ما زال خجولاً ويتحرك ببطء شديد.
أما لماذا لم يقلع جدياً الحوار السوري – السوري، أو لم تنضج شروطه بشكل كافٍ بعد؛ فلأن في طريقه معوقان متداخلان ومتلازمان:
الأول داخليٌّ: ويتصل بتخلّق المتخاصمين بنرجسية سياسية متفردة لدى طرف النظام، ونزعة من مثلها أو يزيد لدى المعارضة، والتي أخذت لبوساً إسلاموياً في مجمل تجلّياتها. فكلا الفريقين، وطيلة حقبة الحرب، ليس في قاموسهما شيء اسمه “الحوار”، إلا حين يكون على طريقتهم الخاصة. حوار لتكريس النظام الشمولي في نزعاته الاستبدادية، بقصد تجميله وإعادة استنساخه من جديد، أو حوار بالبندقية والساطور، حجته “الجهاد” ورافعته “التكفير” وماله “الاقتلاع والتهجير”.
والمعوق الثاني، وهو خارجي: ويرتبط بطبيعة القوى الخارجية المتدخلة بالشأن السوري وبأجنداتها أيضاً. وعند هذا العامل يبرز لغز كبير، ما يجعل الشك يدور حول دور كل من تركيا وإيران اللتان تعتبران من أول وأبرز المتدخلين في الصراع. وفي الوقت الذي كانت تدور فيه أشرس المعارك على الأرض السورية بين النظام وحلفائه من جماعة حزب الله المدعومين إيرانياً، وما بين الفصائل المسلحة الإسلامية المحسوبة على تركيا كالنصرة وجيش الإسلام وما شاكلها، نجدهما وحدهما، أي الأتراك والإيرانيين، ومنذ سنوات، مع الروس في قمرة القيادة لقطار الحل في المسألة السورية ذاتها، وفي طريق ما دُعي بـ”أستانا”. فعلى المسرح الداخلي متحاربان في معركة كسر عظم ومتورطان بكل مآسي الشعب السوري، وبما أصابه من قتل وتشرد وتهجير، ومن جهة أخرى هم طبّاخو الحلول وادّلاؤه، وكذلك واضعو روزناماته. فكيف يجري ذلك، وكيف على المراقب ان يقتنع بنزاهة الدور الذي ينهض به المحور الآنف الذكر، ومن أين؟
ستأتي الفرص لحوارٍ جادٍ هادفٍ ومسؤول، إذا لم يكن على روزنامة أستانا ويخدم مصالح دولها.
وفي مسألة ذات صلة بالنقطة ذاتها، يُطرح سؤال أيضاً، لماذا سكة أستانا ذاتها، ومن الذي اخترعها لتكون طريقاً سالكاً ووحيداً للحل، وهل من جواب غير التحكم بتطورات الصراع وحصره في القوى المحسوبة على أيديولوجيتهم أو المتناغمة معها، واستبعاد القوى التي يصعب التحكم بقراراتها وتوجّهاتها؟
وإلى ذلك، وعلى نفس النحو، ولطالما كان النقاش يدور دوماً حول مستقبل الدولة السورية وطرق الخروج من الأزمة، وضرورة إطلاق حوار السوريين وقواهم الفاعلة لبلوغ ذلك الهدف، فثمة ما يسترعي الانتباه والتوقف عنده، وعند المغزى من استبعاد واحدة من أهم القوى الفاعلة على الأرض عن مهام اللجنة الدستورية وعن مجريات التفاوض، والتي دارت حتى الآن بالنأي عن أي دور أو مشاركة لقوات سوريا الديمقراطية ومجلسها السياسي (مسد)، التي ما انفكت تطرح صباح مساء في برامجها وفي نشاطها فكرة الحوار مع جميع الأطراف المعنية بإيجاد المخارج من الأزمة ونحو الدولة الواحدة الديمقراطية و اللامركزية، دولة الجميع ومن أجل الجميع. ومع أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أن الحوار السوري – السوري لم يأخذ مجراه المرجوّ منه حتى الآن، إلا أنه من ناقل القول إن (مسد) لم تألُ جهداً في طرق وسبل الحوار. وقد نظمت ندوات حوارية متتالية، بدءاً بمؤتمر عين عيسى واحد فاثنين وثلاثة بين عامي 2018 و2019، ثم ملتقى العشائر السورية في مايو/ أيار 2019 والذي انعقد بحضور ستة آلاف مندوب. وإلى ذلك؛ بذل جهوداً متتالية لعقد مؤتمر للقوى الديمقراطية على المستوى الوطني، مروراً باللقاءات التشاورية في استوكهولم، وأخيراً لقاءات الرقة والقامشلي في الشهر الماضي.
وعلى ضوء ما تقدم؛ نستطيع القول إن حواراً وطنياً جاداً وشاملاً يتداعى إليه جميع الأطراف والمكونات لم تتهيأ الظروف له بعد، لكنه يبقى التدبير الذي لا غنى عنه، وجسر السوريين الوحيد إلى خلاصهم. واقتداءً بتجارب الثورات والدول التي مرت بظروف مماثلة؛ فقد كان الحوار بالنهاية هو الملاذ الأخير وطوق النجاة الذي يجب على كل أصحاب النوايا الحسنة أن يتمسكوا به، فالحوار بين السوريين محطة تاريخية في تطور الأحداث يتطلب وعياً ونضجاً وحسّاً عاليا بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية، وليس طقساً تزيينياً أو مشهداً تفرضه حاجة هذا الطرف الدولي أو ذاك. ولبلوغ هذه المحطة من صيرورة الصراع؛ ثمة عوامل وتخلّقات لا بُدَّ من توفرها في أطراف الأزمة، ويأتي على رأسها:
أولاً – نبذ العنف واقتناع جميع الأطراف المعنيّة بفكرة الحوار طريقاً وحيداً للوصول إلى برِّ الأمان.
ثانياً – اقتناع طرف السلطات السورية، بأن الأزمة في جذورها هي أزمة بنيوية، ولم يعد مقبولاً في هذا العصر نظام الحزب الواحد المتفرد بقرار ومصير البلاد، وقد بات من باب المستحيل العودة الى ظروف ما قبل 2011.
ثالثاً – عدم استبعاد أي جهة سياسية أو مكون من مكونات الشعب السوري يقبل بمبادئ الحوار.
رابعاً – تكاتف المتحاورين وتوحيد جهودهم للتوافق على عقد اجتماعي جديد يضمن الأمن والاستقرار، ويتجاوز النقائص في الدساتير التي لم تحصّن النسيج الاجتماعي من الحرب والانفجار، ويستجيب لمعالجة وتلبية حاجات الشعب السوري على المستويات الاجتماعية والروحية.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..