الثورة في إيران.. بين توازنات الخارج وقوة الداخل
محمد عيسى
ثورة مدنية ديمقراطية بدأت تشق طريقها،أو تكاد تهدد عرش نظام الملالي الذي شيدته الثورة الإسلامية في إيران في أواخر سبعينات القرن الماضي. ثورة استحقاقات اجتماعية وثقافية وحضارية لمكونات وأعراق يتشكل منها شعب إيران. فمنذ أكثر من شهر، وعلى خلفية الجريمة النكراء بحق الفتاة الكردية “جينا/ مهسا أميني” ابنة الاثنتين وعشرين عاماً والتي اعتقلتها شرطة الأخلاق لعدم ارتدائها الحجاب، ثم سلمتها مقتولة لذويها؛ انطلقت حملة احتجاجات وتظاهرات غضب منددة بالعملية، ثم اتسعت لتشمل مدناً ومحافظات عدة، قابلتها السلطات الإيرانية بالرصاص الحي وبإطلاق يد “الباسيج” لمواجهتها، وهي القوات شبه العسكرية والتي تشكلت تحت مسمى “قوات تعبئة المستضعفين”.
لكن العنف في مواجهة المتظاهرين لم يَحُدّ من زخم التظاهرات؛ بل زاد من ضراوتها وجعلها تنتشر كالنار في الهشيم، ولتنضم أكثر من مئة وسبعين مدينة إلى حمى الاحتجاج، وتشارك فيها أعراق ومكونات ثم أقاليم، ولأول مرة، ولم تنهض بأية أدوار في حركة احتجاجات 2009، والتي اندلعت بشكل واسع النطاق بعد ما روج عن تزوير الانتخابات لصالح “أحمدي نجاد” في مواجهة “حسين موسوي”، كما لم يكونوا ليشاركوا في تظاهرات 2017 و2019.
وليس هذا فحسب؛ بل العلامة الفارقة هذه المرة هو رفع سقف الشعارات من اليوم الأول وكسر حاجز الخوف والتوجه إلى المرشد “علي خامنئي” بشعار فليسقط الديكتاتور، ومن ثم حرق صوره وصور “قاسم سليماني”.
أما النظام والذي جوبه رئيسه “إبراهيم رئيسي” بمظاهرة عارمة من قبل طلاب جامعة طهران أثناء زيارته لها، ورددوا فيها شعارات تطالب بإسقاط النظام، فقد زاد من منسوب العنف ضد المحتجين، مما تسبب، بحسب تقارير لمنظمة “مجاهدي خلق” المعارضة في مقتل أكثر من 400 شخص واعتقال ما يزيد على عشرين ألفاً بينهم 19 طفلاً .وتضمنت أسماء 129 شهيداً، بينهم 44 من أسماء شهداء يوم الجمعة في “زهدان”، وهذه التقارير كانت قد تلقتها بنفس المحتوى “إيران إنترناشيونال”، وهذا كان واضحاً من خلال ما نشر في الصحافة الإيرانية المحسوبة على المرشد، حيث لم تتوانَ جريدته “كيهان”، والناطقة بلسان حاله، عن الدعوة إلى ممارسة أشد اشكال العنف ضد المتظاهرين، وقد ذهب ليحمّل أطرافاً خارجية بالتحريض والضلوع بالتآمر على نظام ولاية الفقيه.
ونظراً لأن شرارة الانتفاضة قد بدأت مع مقتل الكردية جينا/ مهسا أميني، ومع بيئتهاالمتمثلة بمدينة “سينه/ سننداج” الكردية، والتي كانت منصة البدء في الاحتجاج الذي انطلق منها وتمدد إلى عشرة مناطق في كردستان بينها “كرمنشاه” فأذربيجان الغربية، ومنها انطلقت أولى شعارات المحتجين “مرأة..حياة.. حرية”،”الموت للديكتاتور”،”سأقتل من قتل أختي”. لذلك بحثت السلطات الإيرانية، وكما هي العادة مع أنظمة الاستبداد،عن شمّاعة تعلّق فيها وعليها المسؤولية بما يحصل، فوجدت ضالّتها في كردستان العراق، وتبع ذلك مسلسل القصف الصاروخي اليومي على مناطق كردستان العراق. هذا المسلسل الذي لم يخدم صنّاعه كثيراً، بعد انتقال انتفاضة الغضب إلى عموم الأرجاء في إيران، وخاصة بعد وصولها قطاع صناعة واستخراج النفط والغاز، فمصفاة عبدان في محافظة “خوزستان”.
ومما له دلالة بالغة في هذا التطور؛الكلام المنقول في صحيفة “وول ستريت جورنال” عن لجنة تمثل مع عمال النفط “أن هذا بداية الطريق، وسنواصل”. وبعد دخول “الأهواز العربية” إلى قطار الثورة، ومع تناميها على نحو أفقي وعمودي وانضمام شرائح كانت دوماً في صفِّ النظام؛ تنامى قمع النظام أيضاً وتطورت وسائله، ليصل به الأمر إلى منع تقديم الرعاية الطبية عن جرحى التظاهرات، وصولاًإلى حرق معارضيه عبر حرق معابر احتجازهم في السجون. وكانت آخر أفلامه؛ فيلم احتراق سجن “أفين” في طهران والمختص بالمعارضين السياسيين والذي قتل فيه حتى الآن ثمانية سجناء.
وإلى كل ما تقدّم؛ فثمة أسئلة تشغل بال المهتمين بانتفاضة الإيرانيين، والتي صارت عملاً مكرراً في السنوات الماضية، وصار من المسلم به أن النظام الإيراني لن يتورع عن سحق الاحتجاجات بتفعيل “سافاك” أشد من “السافاك” التي اكتوى ببطشها عام 1979.
وعلى ضوء هذه المسلمة؛ يدور السؤال حول فرص انتصار موجة الثورة هذه، وما هو المختلف هذه المرة عن الدورات السابقة، وهل لدى حكومة إيران أوراقاً تقايض بها مقابل أن تضمن تواطؤاً دولياً معها،أو شراء صمت العالم الديمقراطيحيال الجريمة المتجددة. وفي السياق ذاته؛ فالموضوعية تحتم أن القراءة اليوم مختلفة عما سبق، لاختلافٍ في الظروف الموضوعية والذاتية المتصلة بالوضع الإيراني.فالعامل الذاتي للمنتفضين هذه المرة أكثر تهيؤاً، والموضوعي هو الاخر أكثر نضجاً، والدليل على كل ذلك هو استمرارها لأكثر من شهر، ولاستمرار العناية الإعلامية العالمية بنفس الوتيرة. وثانياً؛ تجاوز حاجز الخوف عند المتظاهرين منذ اللحظة الأولى، والتصويب على المرشد ذاته.وثالثاً؛ بدء حركة الانشقاق في مؤسسات الأمن والجهات العسكرية، يضاف إليه بروز أدوار المرأة والطلبة بشكل مستمر، وغير مسبوق. والمستجد الأبرز في معادلة المواجهة؛ هو بروز قيادة للانتفاضة، وتزعم منظمة “مجاهدي خلق”أنها هي من تلعب دور المنظم والراعي لحركة الاحتجاجات، لا بل تتبنى في بيانات صريحة أعمال المواجهة والمقاومة، حتى العسكرية، عبر لجانالمقاومة في الداخل الايراني، وذلك للتصدي لنشاط “الباسيج” وأدوات القمع التي تستهدف إجهاض الانتفاضة.
ونظراً لأن “مجاهدي خلق” في هذه المواجهة تطرح برنامجاً سياسياً واضحاً بغية الوصول إلى دولة ديمقراطية لكل الاعراق والمكونات، ويظهر في أكثر من إطلالة أو تصريح لـ”مريم رجوي” وغيرها من قادة التنظيم، وإذا أخذنا بعين الاعتبار علاقة “مجاهدي خلق” بالإدارة الأمريكية ودرجة تجذّرها في السنوات الأخيرة، وكيف نجح الحزب بالحصول على قرار من القضاء الإنكليزي يقضي لرفعه عن قائمة الإرهاب؛ نستطيع أن نفهم دور اللاعب الأمريكي في تحضير اللاعب المرغوب فيه لمستقبل إيران.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..