مركز لمصالحة الدروز, حين لم تحضر المعارضة!
أيمن الشوفي
يطلُّ “لوقا” على السويداء، ويغيب عنها “الملحم”، تلك واحدة من ألعاب تبادل الأدوار التي يمارسها نظام دمشق بين الفينة والأخرى، ويحرص من خلالها على تجديد دوره الأبوي “الرعويّ” في مناطق سيطرته، كلَّ مرَّة تُفتضح فيها نواياه الآملة بتقويض ما هو قائم داخل البنية الاجتماعية الاقتصادية للسكان المحليين. ومع إتمام طقوس ومناسك عمرةِ الاستلام والتسليم تلك؛ تكون إدارة الملف الأمني للسويداء قد انتقلت من جهاز المخابرات العسكرية “الملحم” إلى جهاز المخابرات العامة “لوقا”، وهو تبديلٌ تكتيكيٌّ لا أكثر، ولا يهدف بأي حال إلى تغيير سياسة نظام دمشق مع الدروز، أو حتى تبديل ملامحها، إذ إنَّ التمسّك بالخراب والإمعان به هو الاشتغال الحثيث والسائد داخل عقل النظام وفي أفعاله المرئيّة أيضاً.
الاجتماع الذي غاب التوافقُ عنه
يستحوذ الاستعراض السياسي البائس على مُخيّلة النظام السوري، وكذلك على أفعاله المنطوقة بشكلها الحسيّ، كما أنه يعيد من خلالها ترتيب ما خلف الواجهة الزجاجية للمحلّ التجاري الذي يستعرض نفسه من داخله، كأن يظهر “باسل آصف شوكت”، الشاب اليافع، برتبة ملازم أول، ويصير فجأةً ضابط أمن الفرقة الرابعة التي يقودها خاله “ماهر الأسد”.
مثل هذا الظهور الاستعراضي قد لا يشبه في مفاعيله السياسية سوى ظهور مركز للمصالحة في مدينة السويداء، أسوةً بالمراكز التي ظهرت خلال الأعوام الماضية داخل المناطق التي استعاد نظام دمشق سيطرته عليها.
لكن، وقبل ظهور مركز المصالحة مع الدروز، كان ينبغي التوطئةُ له باجتماع استعراضي أيضاً، سبق ظهور المركز بأيام معدودات، حيث جاء من دمشق وفدٌ أمنيٌّ كان على رأسه اللواء “حسام لوقا” مدير إدارة المخابرات العامة، واللواء “محمد رحمون” وزير الداخلية، وغيرهما، فيما امتنع الشيخ “حكمت الهجري” شيخ عقل الدروز الأول عن حضور ذاك الاجتماع، ومعه الشيخ “يحيى الحجّار” قائد حركة رجال الكرامة، وأمير دار عرى “لؤي الأطرش”، أي أن الاجتماع لم يكن توافقياً كما المخطط له، هذا إن اعتبرنا أن الفرقاء الذين لم يحضروا من الدروز ولهم وزنهم الاجتماعي المهمّ، يشكّلون ما يمكن تسميتهم بـ”المعارضة الاجتماعية الناعمة لنظام دمشق”، أي المعارضة السياسية الدرزيّة غير المنظمة، وغير المؤدلجة بعد، والتي لا تمتلك برنامج عمل سياسي مرحلي، ولم تبنِ تحالفاتٍ سياسيّةٍ واضحةَ المعالم، ولا تقول لمجتمعها المحلي ما الذي تنوي فعله بالضبط؟ وبأي أدوات حراك؟ ومتى؟ يمكن فهمها أيضاً على أنَّها معارضةٌ رخوة، غير مستفزة للنظام السياسي، ولا تنوي الصدام معه، لكنها وفي آن غير راضية على أدائه السياسي حيال الدروز بصورةٍ خاصة.
المصالحة لا تكون بمركز!
ظهرت العصابات المسلحة داخل المجتمع الدرزي، ثم طغت داخل الفضاء الاجتماعي عبر أدوارٍ متعدِّدةٍ لازمتها وصاغت معالم وجودها المادي، أحدها كان يحاكي نموذج العقاب الأبوي الذي اعتقد جهاز الأمن العسكري بأنه يلقّنه للدروز كبديل لاضمحلال دور النظام الأمني حين نضبت مفاعيله بصورةٍ جادّة منذ العام 2014، ولم تكن في نيّة الأمن العسكري تخفيض رتبة تلك العصابات، أو تقليص نفوذها داخل المجال الحيوي العام، وإنما ترك للناس تلك المهمة إن رغبوا بها حقاً، وهذا ما حدث خلال الحملة التي دبَّرَتها فصائل محليّة مسلَّحة خلال الصيف المنصرم لتفكيك تلك العصابات، واستطاعت بالفعل التخلّص من أكثر العصابات سطواً وهما اللتان حملتا اسمي “حركة قوّات الفجر” و”حركة قوّات الفهد”، وأعلن إئتلاف تلك الفصائل المسلحة لاحقاً نيته تفكيك عصابة “مزهر” آخر العصابات القويّة داخل المدينة، لكنه عاد وتقاعس بحجة نقص الغطاء الاجتماعي اللازم لإنجاز تلك العملية، والنظام السوري وجد نفسه مُحرَجاً للغاية أمام من بَقِيَ من موالين له بعد التسريبات العديدة التي لاحقت جهاز الأمن العسكري، وعلاقته اللَّصيقة بتسمين تلك العصابات ووضع جدول أعمالها أيضاً، فكان لا بُدَّ من تجميل تلك البشاعة السياسية، فصار “لوقا” هو “المندوب السامي للنظام” لدى الدروز بدلاً من “الملحم”، لكن العقلية الأمنية ظلت هي العقلية السائدة في منهجية تعاطي السلطة مع السويداء، وما مركز المصالحة إلا توثيق لمفاعيل منظومة التفكير الأمني التجريدية، لأنَّ الإشكالية القائمة في علاقة المجتمع مع نظام دمشق لا تُحلّ بتسوية أوضاع الفارين من الخدمة الإلزامية أو الرّافضين لتأدية الخدمة الاحتياطية.
وبحسب متابعين؛ فإن عدد من قَبِلَ تسوية وضعه هو عددٌ محدودٌ جداً، وربما أقل بكثير من توقعات السلطة، وهذا منطقي، لأن أحداً لا يريد رمي سنوات إضافية من عمره بلا طائل، وضمن شروط غير إنسانية تسود الخدمة العسكرية لدى جيش النظام، والأرجح أن تلك الوثيقة التي يمكن استخراجها بعد زيارة مركز المصالحة هي التي تُغري الشباب باقتنائها، وبموجبها يستطيعون التنّقل داخل جغرافيا النظام بلا اعتقال على الحواجز مدّة ستة أشهر.
يريد النظام من وراء مركز مصالحته ذاك إعادة الدروز إلى بيت الطاعة، متجاهلاً حقيقة وقوع الطلاق البائن بين الإثنين، ومتجاهلاً أيضاً أن الدروز لا يعيدون مطلّقة، ولا يعودون إلى بيت ضاقَ عليهم فهاجروه.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..