هل سلمت تركيا ملف “الإئتلاف السوري” لأمريكا
محمد عيسى
لا شك بأن أي تطورات تحصل في الملف السوري اليوم لا يمكن النظر إليها بمعزل عن المناخ الذي يُخيِّم على الوضع الدولي، ودون الأخذ بعين الاعتبار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والتي بات من مؤشراتها شبه المؤكدة، أن هزيمة روسية في الطريق إلى أن تكون محققة، ما يترك أثره على الأطراف اللاعبة في الأزمة السورية، وعلى سكة الحل ومسار الأحداث فيها، وكذلك على مصير الفرقاء المتنازعين على حسم الصراع أو كسب نتائجه.
وما يسترعي الانتباه في خضم هذه التطوّرات المتسارعة؛ هو مصير المعارضة وعلى رأسها الإئتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، هذا التشكيل الذي بقي على واجهة الأحداث منذ تشكيله في الدوحة في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2012 وإلى مطلع ربيع هذا العام حيث بدأت عمليات النخر فيه، وظهرت في هياكله التصدّعات وعمليّات الفصل والاستبدال لأعضائه والمنتسبين إليه.
هذا الإئتلاف الذي جاءت ولادته متناغمة مع انطلاقة ما تسمى بـ”الثورة السورية”، وكان رئيسه عند تشكله “معاذ الخطيب” إمام وخطيب المسجد الأموي بدمشق، وفي موقع نوّابه كل من “سهير الأتاسي” و”رياض سيف”. وقد حاول في بدايته أن يكون إطاراً لتحالف واسع من القوى والحركات والشخصيات المستقلة.
تكوَّنَ الإئتلاف من 63 عضواً، ضَمَّ ممثلين عن المجلس الوطني السوري الذي كان مهيمناً عليه من قبل جماعة “الإخوان المسلمين”، بالإضافة إلى “المجلس الثوري للعشائر”، و”لجان التنسيق المحلية”، و”رابطة العلماء السوريين”، و”تيار مواطنة”، و”تحالف معاً”، وكذلك ممثلين عن مكونات تركمانية وعن بعض الأكراد.
وقد توارد على رئاسته أسماء وشخصيات عديدة؛ من أمثال “برهان غليون، أحمد الجربا، عبد الباسط سيدا، أنس العبدة، وأخيراً سالم المسلط”.
إن هذا التشكيل المولود بـ”الدوحة”، والذي ترعرع في أنقرة وإسطنبول؛ قد ورث “المجلس الوطني السوري” ذو “البنية الإخوانية” منذ التأسيس، والذي شغل فيه “جورج صبرا” حليفهم الضمني منصب الرئيس. وقد شكل الإخوان والمتحالفين معهم نصف مقاعده. ورغم تلقيه دعماً دولياً وعربياً كبيراً من بدايته، وحصوله على مكاتب تمثيل في عواصم دولية وعربية عديدة، إلا أنَّه لم ينجح في المحافظة على زخمه، وكما لم ينجح في الوصول إلى عواطف السوريين وترجمة أحلامهم في الخروج الآمن من مناخ الحرب والقتل والتطييف، إلى حلم دولة المواطنة والعدالة والديمقراطية، بل غاب عن خطابه أي إشارة على وجود البرنامج الوطني السياسي المُقنِع والذي يطمئن السوريين إلى وحدتهم واستقرارهم ويُبَدِّدُ مخاوفهم، وبكلام واضح ولا لُبسَ فيه.
بالمجمل لم يُحتمل أن يوجه الإئتلاف نقداً واحداً، أو احتجاجاً – ولو بسيطاً – على تطور مسار الثورة نحو امتهان أساليب الإرهاب والقتل والأسلمة؛ إنَّما مثَّلَ، ودون أدنى شكّ، واجهة غير معلنة أو متواطئة مع عمل المنظمات الإرهابية كـ”النصرة وداعش” وغيرها. هذا الفشل في الالتصاق بمشروع الثورة الحقيقية والابتعاد عن المهام الوطنية الديمقراطية؛ خلق شكّاً كبيراً لدى العواصم الدولية ومناطق القرار الدولي بأداء وصلاحية هذا التحالف وكذلك بفكرة الثورة برمَّتها، ليتحول الإئتلاف ومع انتقاله إلى الحضن التركي وبالتدريج إلى بَيدَقٍ وورقة لعب بيد أنقرة تلعب بمصيره وترسم توجهاته، وجزءاً لا يتجزأ من المشروع التركي في سوريا، وكما هو الحال في التعاطي مع “الإخوان المسلمين” في معادلات المنطقة.
وبالتماهي مع كل ذلك؛ فما من شكٍّ بأن الإئتلاف السوري المعارض، قد تحتم عليه، وبفعل من تشوهه الخلقي، ان يرتمي بالحضن التركي. ومما لا يختلف عليه اثنان؛ هو أن من سوء طالعه أنه قد نزل ضيفاً على نظام راقص ومنافق يكذب لسانه في المساء ما نطقت به شفتاه في الصباح، فهو من نظام جاء إلى حكم البلاد بدعوى “صفر مشاكل مع الجوار”، إلى صانع المشاكل في كل مكان، من عدوّ الروس في النزاع السوري وقصة سقوط الطائرة الروسية، إلى صديق يلتمس صداقة بوتين، من صديق مقرّب جدّاً من نظام دمشق في 2011، إلى عدو له، ثم ملهم ومحرض للسوريين للثورة عليه، ومن حالمٍ بالصلاة في المسجد الأموي بدمشق نكاية بالنظام، إلى “لو حضر الرئيس بشار الأسد إلى سمرقند لكنت التقيته”، هذا هو المُضيف وهذه هي أخلاقه، وهكذا كان الضيف غبياً ومشوهاً وقصير النظر.
وإلى خبر صاعق لجهة مصير الإئتلاف نقلته وكالة سبوتنيك الروسية ومن مصادر موثوقة ومطّلعة؛ أن جهاز الاستخبارات التركية قد طلب من أعضاء الإئتلاف وقف جميع نشاطاته ومغادرة الأراضي التركية في موعد أقصاه نهاية هذا العام. هذا الإئتلاف وهذه المعارضة التي أصبحت علبة فارغة بعد أن استهلكها أردوغان في معاركه ووظفها حتى آخر رمق ضد إخوانها السوريين، ولم تكذّب هي بدورها الخبر، فقد مثلت رأس حربته الإعلامية والعسكرية في حربه لاحتلال عفرين في 2018، وفي حملته على تل أبيض ورأس العين في خريف 2019.
ويأتي كل هذا على خلفية التفاهمات مع نظام دمشق والتي مازالت تجري على المستوى الأمني فقط، وعلى خلفية ما بات واضحاً عن نية أردوغان في بيع المعارضة السورية بأي ثمن والتنازل عن ملفها للأمريكان، الذين بدأ يتصاعد دورهم بعد طول غياب في المشهد السوري وفي باقي ملفات المنطقة. وفي هذا الإطار يمكن تفسير الدعوة إلى زيارة واشنطن، والتي حصلت مؤخّراً وجرت بين وفد من الإئتلاف ومسؤول درجة ثانية في الخارجية الأمريكية، ليؤكّد صحة التوجهات التركية، وإذ قال وفد الإئتلاف بعد إنهاء الزيارة؛ “إنه تلقى وعوداً ما من الإدارة الامريكية”.
وبنتيجة كل ذلك لا بُدَّ من الخروج بجملة من الملاحظات والحقائق التالية:
أولاً – سقوط المعارضة بصيغتها الإسلاموية الغالبة، والتي تصدرت المشهد طيلة حقبة أكثر من عقد من عمر الأزمة.
ثانياً – استمرار الأزمة بكل معانيها وشروطها ودلالاتها التاريخية.
ثالثاً – بروز مولود لا يمكن الاستهانة بوزنه ومشروعه وفرصه في النجاح؛ هو حالة أو تجربة الإدارة الذاتية ومشروع (مسد) لسوريا واحدة ديمقراطية ولا مركزية.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..