الحجارة على طريق, هكذا يتعثر الدروز!
أيمن الشوفي
لم تتعافَ مناطق سيطرة النِّظام من معادلة الصمت الاجتماعي السياسي التي استوطنت داخل أحشائها كجائحة ممرضة منذ سنوات بعيدة، بالرغم من أن المنطقة عادت لتحتفل بمزيدٍ من الانتفاضات الاجتماعية كما في العراق، ومؤخراً في إيران. غير أن سلالة الصامتين الموالين من السوريين، تندفع بغزارة، وبلا انقطاع داخل المشهد السوريّ العام، لتشكّل مصفوفةً طويلة من الاستسلام السياسي الكامل للمصير التراجيديّ الذي تخطّه لهم بعناية سلطةُ نظام دمشق الفاسدة، المتآمرة على بلادها وشعبها.
في الآونة الأخيرة ساد نموذج قطع الطرق العامة بالحجارة، كوسيلة احتجاجية لجأ إليها ناشطون من أبناء بعض القرى الدرزية النائية، أرادوا من ورائها دَرْءَ بعضٍ من عسف السلطة الحاكمة وجورها عليهم، واستهتارها غير الملجوم تجاه سائر المناطق الخاضعة لها بالقوة، والآخذة بالتعفّن التدريجي، المُهلِك لها حتماً؛ إنْ لم تتدارك صمتها المُخجل وتنفصل عنه.
حين يكون الصمت بديلاً
لم يخترْ السوريون في دمشق ومناطق سكن الأقليات الانتفاضَ بوجه السلطة القائمة، بل إنهم سايروا وجودها غير الشرعيّ على حساب تقنين وجودهم إلى ما دون الحدّ الأدنى من مقوّمات الكرامة والعيش الآدمي وفق اشتراطاته الدُنيا، وقد كبّدهم هذا التنازل التاريخي أهوالاً لا تُحصى، أبسطها أنهم باتوا محرومين من الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء ووقود التدفئة والرعاية الصحية والتعليمية اللائقة، عدا عن أن أغلبهم قفزوا بحماقة ليعيشوا تحت خط الفقر الأدنى، عاجزين عن تدبّر نظام غذائي فيه الحدّ الأدنى من عناصر التغذية الأساسية.
وبدلاً من التحشيد السياسي الشعبي ضد طغمة النظام الحاكمة؛ استسهل الناس نمطَ التأقلم مع مأزقهم الوجودي كبديلٍ أقل كلفة من مقاومة فعل الطغيان السياسي، أو اختاروا الارتماءَ بأحضان حلول الخلاص الفردي، وأبرزها الرحيل أو اللجوء، وإن بنسبِ مخاطرةٍ عالية، وإن تطلَّب الأمر بيع البيت السكني، أو رهنَ عقار، مقابل كلفة موطئ قدم داخل القارة العجوز، أي النجاة من جحيم النظام السوري المتربّص بكل من طبّل وزمّر ممتدحاً وجوده ومستحسناً بقاءه ككدمة زرقاءَ تطفو فوق وجوه الناس الباردة.
كان مؤلماً إذاً استسلام الناس المجّاني لسلطة الخوف، وكأن حياتهم المهينة تحت مظلة الذّل أرحم حالاً من فنائهم المحتمل، في حين أن شعوباً أخرى تجاورهم لم يستمرئوا مخالطة الظلم لحياتهم، وهبّوا لنجدة ذواتهم قبل أن يلتهمها “بعبع” الخوف، لم يخرجوا بهجرات ارتجالية مولّمين (أي جعلها وليمة) أجسادهم قرابينَ لقوارب الموت، ولم يقايضوا أمانهم الفردي الزائف بحياة مسخة تشبه شحوب فيلم بالأبيض والأسود لا يعرض إلا لمرةٍ واحدة فقط.
السوريون صمتوا، وطال بهم الصمت، وكأنهم مفجوعون بما لا نعرف، ولا حتى هم يعرفون، وكأنهم منذورون للذل، هامشيون، يرتضون المكوث في الحواشي والظلال، ويخافون دخول التاريخ، ويهربون من ملاحم التغيير الكبرى، السياسة عندهم هي الاحتماء بمساحات الصمت وتوسيع أطرافها أميالاً إضافية، وتلقينها لنسلهم الجديد وجعلها تتصدر وصاياهم، موتى يوصون موتى بالصمت!
الاحتجاج بصوره الفقيرة للغاية
فضّل دروز السويداء اقتناء لون رماديّ كرايةٍ تمثّل خيارهم السياسي من النظام القائم، ولا يزالون على وفقٍ مع رماديّة خيارهم ذاك، بالرغم من أنهم وفي مرّات عديدة أربكوا نظام دمشق حين صعّدوا نبرة توبيخهم له، ولا سيما في النسخة الأولى من حركة رجال الكرامة، ثم في احتجاجات “بدنا نعيش” ووقفات سلميّة أخرى تلتها، وهم بذلك شكلوا فارقاً على صعيد المبادرة السياسية وطرق تناولها إجرائيّاً عن باقي مناطق النظام، أي عن العاصمة دمشق ومحافظتي الساحل، ومنطقة السلمية حيث الغالبية الإسماعيلية هناك، وتلك مناطقُ لم تسجل مواقفَ احتجاجية تحفظها الذاكرة القريبة، وواقع الحياة فيها ليس أحسن حالاً من الذي يسود في محافظة الدروز الجنوبية.
ومع تعاظم ضمور مقوّمات الحياة، وبلوغها عتبة الحدّ الأدنى، وانسحاب الدولة من أدوارها في عقدها الاجتماعي المفترض مع الناس، صار الانفكاك منها نتيجةً منطقية في مناطق سيطرتها، وهذا ما حمل بعض الشباب الدروز مراراً إلى استنهاض العاطفة الجمعيّة لعموم الناس من دون اتّباع قوالب عمل سياسي جاد، أو الاستعانة بأدوات حراك مجرّبة وذات فاعلية. وتلك محاولاتٌ تمثّل بعضها في إغلاق مراكز الهاتف والبريد في خمس قرى، ثم في قطع الطرق العامة باستخدام الحجارة، كما حدث في قريتين على الأقل حتى الآن، ومع اقتراب فصل الشتاء وغياب مازوت التدفئة، يصير خيار الاحتجاج ضرورة موضوعية لا حياد عنها، وإلا مات القوم من البرد. مع أن الصوابية السياسية تفتي بضرورة الانتقال من الاحتجاج إلى العصيان المدني العام، وطرد هياكل الدولة من الحياة العامة، بعدما تحولت إلى هياكلَ فاسدة، عقيمة، وعاجزة وعمياء، فالحجارة التي يصادر بها بعضُ الناشطين الدروبَ والطرق، ستكون عثرةً أمام خلاصهم إن اكتفوا بعدّها فقط.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..