من ينقذ اللاجئين السوريين من دائرة الابتزاز التركي؟
جميل رشيد
تُشكِّلُ قضيّة اللّاجئين السُّوريّين في دول الجوار، وكذلك في الدّول الأوروبيّة، إحدى الملفّات السّاخنة، لجهة كونها قضيّة “إنسانيّة” بالدَّرجة الأولى، ومأساة عصفت بأبناء سوريّا، ليتناثروا في معظم دول العالم؛ بحثاً عن مكان آمن يقيهم شَرَّ الويلات والشرور التي طالتهم في وطنهم منذ أكثر من إحدى عشر سنة.
يُعَدُّ ملفُّ اللّاجئين في دول الجوار السُّوريّ، أكثر أهميّةً وحيويّةً منه في الدّول الأوروبيّة، لجهة السَّعي الدّائم للدّول الإقليميّة، وفي مقدِّمتها تركيّا للاستثمار السِّياسيّ فيه، واستخدامه ورقة ابتزاز ضُدَّ الدّول الأوروبيّة ماديّاً وسياسيّاً.
بات معروفاً للقاصي والدّاني أنَّ تركيّا التي فتحت حدودها أمام اللّاجئين عام 2015 باتّجاه تدفُّق موجات مئات الآلاف منهم نحو أوروبا في ظِلِّ ظروف جوّيّة قاسية جدّاً، حيث لقى المئات منهم مصرعهم في عُرض البحار وفي الغابات، إمّا مرضاً أو جوعاً أو غرقاً، فيما نال من تمكَّنَ من الوصول إلى البَرِّ الأوروبيّ الذُلَّ والمهانة على أيدي حرس حدود العديد من الدّول الأوروبيّة، أججّت تركيّا هذا الملفّ بغرض تنفيذ مآربها في سوريّا، عبر ليِّ عضد الدّول الأوروبيّة في تقديم دعمٍ مفتوح لها وغير مشروط، مقابل إغلاقها حدودها أمام وصول اللّاجئين إلى أوروبا.
أوقفت تركيّا حركة اللّاجئين السُّوريّين بعدما انهالت عليها “العطايا” الأوروبيّة، ونالت الدَّعم الماديّ والسِّياسيّ لمشاريعها التدميريّة في سوريّا، فكانت طيلة الفترة الممتدَّة من 2015 وحتّى اليوم، تُهدِّدُ أوروبا بورقة اللّاجئين، فضَمِنَت صمتها على عدوانها على “عفرين، سري كانيه/ رأس العين، وكري سبي/ تل أبيض”، إضافة إلى تمويل مفتوحٍ تلقَّته من الحكومات الأوروبيّة على مشاريعها الاستيطانيّة في التغيير الدّيمغرافيّ في معظم المناطق التي تحتلّها في سوريّا، حتّى غدت العديد من الدّول شريكةً لتركيّا في انتهاكاتها.
إنَّ الضغوطات والإهانات التي يتعرَّض لها اللّاجئون السُّوريّون في تركيّا لا تُعَدُّ ولا تُحصى، من قتل وعنصريّة مقيتة تُمارَس ضُدَّهم، حتّى تَمَّ منعهم من كتابة أسماء محالهم التِّجاريّة باللُّغة العربيّة، وألغيت بطاقات الإقامة المؤقّتة “الكيملك” لمن لا ترغب بهم الحكومة التُّركيّة، وتَمَّ ترحيلهم قسرياً إلى المناطق المُلتهبة في سوريّا، وخاصَّةً الواقعة تحت احتلالها، وسُلِّمَ معظمهم إلى ميليشيّات إرهابيّة موالية لها مثل “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً”، ومرتزقتها في عفرين والباب وإعزاز وسري كانيه وكري سبي، وغالباً ما يتعرَّض المرحَّلون قسريّاً إلى صنوف وحشيّة من التَّعذيب والسِّجن والاعتقال التعسُّفيّ الكيديّ والابتزاز الماديّ، دون توجيه أيِّ تُهمٍ وجيهة لهم، مثلما حصل مع مجموعة من أهالي ناحية معبطلي بعفرين، حيث سُلِّم أكثر من /18/ شخصاً، غالبيّتهم من النِّساء، إلى “حركة أحرار الشّام الإسلاميّة” الإرهابيّة، عندما كانت تسيطر على معبر باب الهوى، ولم يَتُمّ الإفراج عنهم إلا بعد دفع أموال باهظة لها، فيما قسم آخر أفرج عنهم بعد سيطرة “هيئة تحرير الشّام” على المعبر عام 2017.
تركيّا التي استقبلت اللّاجئين السُّوريّين الفارّين من جحيم المعارك في وطنهم، أعدَّت لهم مخيّمات وأماكن لإقامتهم، حتّى قبل احتدام المعارك بين المعارضة والنِّظام. فمُخيَّم “أبايدن” على الحدود التُّركيّة السُّوريّة في بلدة “الرِّيحانيّة”، يحتجز فيه الضُبّاط السُّوريّون المنشقّون، بعد أن وضعوا تحت حراسة أمنيّة تركيّة مشدَّدة، ويُمنع الخروج منه إلا بإذن من الاستخبارات التُّركيّة.
كما أنَّ حرس الحدود التُّركيّ قتل أكثر من /550/ لاجئاً سوريّاً على الحدود أثناء عبورهم إلى الأراضي التُّركيّة، فيما تعرَّض الآلاف للتَّعذيب الوحشيّ على أيدي الجندرما التُّركيّة، واعتقل آخرون.
الحلقة الأخطر في مسلسل التَّلاعب التُّركيّ بملفِّ اللّاجئين السُّوريّين؛ تمثَّل في نقلهم قسريّاً إلى المناطق التي تحتلّها في الشَّمال السُّوريّ، وخاصَّةً إلى عفرين وسري كانيه وكري سبي. تغيير التُّركيّبة الدّيمغرافيّة في تلك المناطق، وضعته تركيّا هدفاً إستراتيجيّاً لها، إلى جانب سعيها لربطهم عقائديّاً بجماعة الإخوان المسلمين الإرهابيّة، والسَّماح للجمعيّات والمنظَّمات المرتبطة بها العمل على نشر الفكر الإسلامويّ المتطرِّف العنصريّ والطائفيّ، عبر إنشاء مستوطنات خاصَّةٍ بهم، إضافة إلى بناء الجوامع والمدارس الدّينيّة التي تَحُضُّ على الكراهية وتفتتح دورات للأطفال والنشء الجديد على تعلّم الفكر الإرهابيّ المتطرّف.
رغم جميع هذه السِياسات التي مارستها تركيّا ضُدَّ اللّاجئين السُّوريّين، فإنَّها لم تحقِّق أهدافها في إلحاق المناطق التي احتلّتها بأراضيها، بل وصلت إلى جدار مسدود، باتت معها تبحث عن سبل أخرى لتنفيذ ما عجزت عنه خلال سنوات تدخُّلِها في المفاصل الرَّئيسة للأزمة السُّوريّة. فعادت مرَّةً أخرى إلى التَّلويح بورقة اللّاجئين، وأيضاً من بوّابة الإخوان المسلمين.
فرغم الانعطافات العديدة للرَّئيس التُّركيّ رجب طيّب أردوغان وتغيير سياساته الدّاخليّة والخارجيّة، كالحرباء، إلا أنَّه مُنِيَ بهزيمة نكراء، بتعويله على المرتزقة الذين ديدنهم السَّلب والنَّهب والقتل والتخريب. فآخر انعطافاته تجاه النِّظام السُّوريّ، تُعَدُّ الهزيمة الأكبر له.
إلا أنَّه الآن يبحث عن طرق أخرى، لعلَّ وعسى تُعيُد له شعبيّته المتدهورة، نتيجة سياساته الرَّعناء والطائشة في التدخُّل في شؤون دول عديدة، فأدار بوصلته مرَّةً ثانية نحو أوروبا التي تعاني بالأصل من أزمات خانقة ومن تبِعات الحرب الرّوسيّة – الأوكرانيّة.
تَزايدُ الاحتقان بين صفوف اللّاجئين السُّوريّين في تركيّا، يحاول أردوغان استغلاله عبر التَّحضير لما أطلق عليه “قافلة النّور” للتوجُّه نحو أوروبا، التي ترتعد فرائصها بمجرَّد سماعها نبأ تدفُّق موجات جديدة من اللّاجئين نحو أراضيها.
إنَّ إطلاق تسمية “قافلة النّور”، هي تسمية “إخوانيّة” بامتياز، ولها دلالتها في قاموس أردوغان السِّياسيّ، كمحاولة لجذب واستقطاب عدد آخر من التيّارات الإخوانيّة والإسلامويّة إلى حلفه، وإعادة خلط الأوراق، سعياً وراء ابتزاز أوروبا، لإرغامها على دعم مشاريعه الاحتلاليّة والاستيطانيّة في الأراضي السُّوريّة المحتلَّة، والسَّماح له بشَنِّ عدوانٍ جديدٍ على مناطق شمال وشرق سوريّا.
انضمَّ آلاف السُّوريّين إلى الحملة التي تقف وراءها جماعات مؤيّدة لحزب العدالة والتنمية والعديد من المُنظَّمات والجمعيّات الإخوانيّة، إضافة إلى جهاز الاستخبارات التُّركيّة، في تسهيل مرورهم عبر الحدود البرّيّة والبحريّة التُّركيّة باتجاه اليونان ودول أوروبيّة أخرى، لتستعدَّ أوروبا فزعة لاستقبال أكبر موجة لاجئين بعد عام 2015، وهو ما يُنذر بالمخاطر التي سترافق اللّاجئين خلال رحلتهم نحو البلدان الأوروبيّة، بعد أن ضاقت بهم سُبُل العيش في تركيّا.
اللّاجئون السُّوريّون في تركيّا بين خيارين أحلاهما مُرٌّ؛ إمّا القبول بالشّروط التُّركيّة والانتقال للعيش في المستوطنات التي أقامتها في الأراضي المُحتلَّة، وبالتّالي الرضوخ لإملاءات مرتزقتها، أو التوجُّهَ نحو المجهول، في ظِلِّ غياب أيّ توجُّهٍ دوليّ لحمايتهم من ابتزاز الدّولة التُّركيّة.
إنَّ تَبِعات اللُّعبة التُّركيّة، على بنية المجتمع السُّوريّ وكيان الدّولة السُّوريّة، يُعتبر الأكثر تدميراً، فمعظم اللّاجئين ممَّن استقرَّت بهم الأحوال في الدّول الأوروبيّة، لا يفكِّرون بالعودة إلى بلدهم مطلقاً، حتى وإن وضَعَت الحرب أوزارها، خاصَّةً بعد أن توفَّرت لهم فرص العمل والتَّعليم في تلك البلدان، فتركيّا تساهم بشكل رئيسيٍّ في تشتيت الشَّعب السُّوريّ في المنافي، وهي سياسة محكمة اتّبعتها منذ بداية الأزمة السُّوريّة. إنَّ اقتلاع شعبٍ من جذوره، وإبعاده عن جغرافيّته وعن تاريخه تعتبر جريمة في الأعراف الدّوليّة والقانونيّة والحقوقيّة، وهي سياسة بَرِعَت فيها تركيّا منذ أيّام الإمبراطوريّة العثمانيّة، فلقد أنشأ السَّلاطين العثمانيّون وزارة أطلقوا عليها اسم “وزارة الإسكان” وكان يرأسها وزير يُسمّى “إسكان باشا/ Iskan Paşa”، مهمَّتها نقل المجموعات العرقيّة غير التُّركيّة من أماكن سكناها إلى مناطق أخرى، لتبتعد عن جذورها التّاريخيّة والثَّقافيّة، وتنصهر رويداً رويداً في بوتقة الثَّقافة التُّركيّاتيّة.
إعلان تركيّا فتح باب المصالحة مع النِّظام السُّوريّ، دون أيّ شروط، وفتح باب الهجرة أمام اللّاجئين السُّوريّين المقيمين على أراضيها، لن تُعيد بأيِّ مكاسب على نظام أردوغان الغارق بالأزمات، ولن ينقذه سوى انسحابه غير المشروط من الأراضي السُّوريّة، وسحب دعمه من مرتزقته، حينها سيتسنّى للاجئين السُّوريّين عودة كريمة وطوعيّة إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم، دون أيّ ضغوط أو ابتزاز، ومن أيّ طرف كان.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..